الكون يزداد حجمه كل لحظة، وتتمدد المسافات بين المجرات مثلما يحدث للعجين في الفرن. ولكن السؤال الأهم هنا، ما هو معدل توسع الكون؟ ولأن هابل والتلسكوبات الأخرى تم توجيهها للعثور على الإجابة، فأنهم قد أثاروا فرقًا مثيرًا بين ما يتوقعه العلماء وما ترصده تلك التلسكوبات.
يقول علماء الفلك العاملون بتلسكوب هابل الفضائي التابع لوكالة ناسا أنهم تقدموا خطوة مهمة في الكشف عن التناقض بين الطريقتين الرئيسيتين في لقياس معدل توسع الكون. وتبين الدراسة الأخيرة أننا بحاجة إلى نظريات جديدة لشرح القوى التي شكلت الكون.
تشير قياسات هابل إلى أن معدل توسع الكون الحديث أكبر مما كان متوقعًا، وذلك استنادًا إلى كيفية نشأة الكون قبل 13 مليار عام. هذه القياسات تأتي من القمر الصناعي بلانك (Planck satellite) التابع لوكالة الفضاء الأوروبية. هذا التناقض تم تعريفه في الأوراق البحثية في السنوات الماضية، ولكن لم يكن واضحًا إن ما كان الاختلاف في تقنيات القياس هي السبب أم بعض الفروق في القيم المقاسة.
وقد تطورت دقة قياسات هابل خلال هذا العام. وهذه القياسات الأكثر دقة تجبرنا على اكتشاف فيزياء جديدة قد تكون ضرورية لشرح هذا التناقض.
ويقول آدم ريس، الحائز على جائزة نوبل في معهد مراصد علوم الفضاء:
“إن الاختلاف بين الكون المبكر والكون الحديث قد يكون أكثر التطورات الأخيرة في علم الكونيات منذ عقود، وقد كان هذا الاختلاف صغيرًا فيما مضى، إلا أنه ظل ينمو حتى وصل إلى نقطة لا يمكن استبعادها باعتبارها مجرد صدفة. هذا التفاوت لا يمكن أبدًا أن يحدث عن طريق الصدفة.”
يستخدم العلماء ما يسمى سلم المسافات الكونية (Cosmic distance ladder) لتحديد مكان وجود الأشياء في الكون. تعتمد هذه الطريقة على اجراء قياسات دقيقة للمجرات القريبة ثم الانتقال إلى مجرات أبعد وأبعد، وذلك باستخدام نجومها كمعلم ميليّ. يستخدم الفلكيون هذه القيم، بالإضافة إلى قياسات أخرى لضوء المجرات المحمر أثناء مرورها عبر الكون المتمدد، لحساب مدى سرعة توسع الكون مع الزمن، وهي قيمة تعرف باسم ثابت هابل. ويعمل العلماء وعلى رأسهم البروفيسور آدم رييس (Adam G. Ries) على السعي من أجل تحسين قيمة هذا الثابت.
في هذه الدراسة الجديدة، استخدم علماء الفلك تلسكوب هابل لمراقبة 70 من النجوم النابضة، والتي تسمى (متغير قيفاوي-Cepheids)، بداخل سحابة ماجلان الكبرى. وقد ساعدت هذه الملاحظات العلماء في “إعادة بناء” سلم المسافة من خلال تحسين المقارنة بين تلك النوابض وأقربائهم الأكثر بعدًا من السوبرنوفا الوليدة حديثًا. وقد خفض فريق رييس حالة عدم اليقين في قيمة ثابت هابل من 2.2% إلى 1.9%.
على الرغم من قياسات الفريق التي أصبحت أكثر دقة، إلا أن حساب ثابت هابل طل على اختلاف مع القيمة المتوقعة والمستمدة من ملاحظات تمدد الكون المبكر. هذه القياسات قد أجريت بواسطة القمر الصناعي بلانك، والذي رسم خريطة الكون المعروفة بإشعاع الخلفية الكونية الميكروي، وهي صورة ملتقطة لحالة الكون عندما كان عمره 380,000 سنة بعد الانفجار العظيم.
وبقد تمت فحص تلك القياسات بشكل دقيق، لذلك لا يمكن للعلماء إهمال أو استبعاد تلك الفجوة بين القيمتين نظرًا لاحتمال حدوث خطأ في القياس في واحدة منهما أو كلاهما. وقد تم اختبار كلتا القيمتين بطرق متعددة.
وقد أوضح رييس قائلاً:
“هذه ليست مجرد تجربتين مختلفتين، فنحن نقيس شيئًا مختلفًا اختلافًا جذريًا. الأول هو قياس مدى سرعة تويع الكون كما نراه اليوم. والثاني عبارة عن تنبؤ قائم على فيزياء الكون المبكر وعلى قياسات للسرعة يجب أن يتوسع بها. وإذا لم تتفق هذه القيم، فستكون هناك احتمالية قوية لأننا نفتقد شيئًا ما في النموذج الكوزمولوجي الذي يربط بين تلك الفترتين الزمنيتين من الكون.”
يستخدم الفلكيون المتغيرات القيفاوية كمقاييس كونية لقياس المسافات القريبة بين المجرات لأكثر من قرن. ولكن محاولة حصاد مجموعة كبيرة من النجوم قد تستغرق وقتًا طويلًا بحيث لا يمكن تحقيقها. لذلك استخدم الفلكيون طريقة ذكية تسمى (Drift And Shift-DASH)، وذلك باستخدام تلسكوب هابل كنقطة تصوير والتقاط لالتقاط صور سريعة للنجوم النابضة المشعة للغاية، مما يلغي الحاجة المستهلكة للوقت للحصول على دقة كبيرة.
وأوضح ستيفانو كاسير تانو، أحد أعضاء الفريق:
“عندما يستخدم هابل توجيهًا دقيقًا عن طريق تتبع النجوم الدالّة، فإنه يمكنه رصد متغير قيفاوي واحد فقط كل تسعين دقيقة كزمن دورة تلسكوب هابل حول الأرض. ولذلك سيكون مكلفًا للغاية بالنسبة للتلسكوب أن يلاحظ كل متغير قيفاويّ، وبدلًا من ذلك فأننا نقوم بالبحث عن مجموعة من تلك النجوم النابضة بحيث تكون قريبة بما فيه الكفاية حتى نتمكن من التحرك بينها دون الحاجة إلى إعادة معاير التلسكوب. وهذه التقنية تسمح لنا بمراقبة عشرات النجوم النابضة خلال دورة التلسكوب الواحدة حول الأرض.”
بعد ذلك جمع علماء الفلك نتائجهم مع مجموعة أخرى من الملاحظات، وهي التي أدلى بها مشروع أراوكاريا (Araucaria Project) وهي تعاون بين علماء الفلك في تشيلي والولايات المتحدة وأوروبا. حيث أجرت هذه المجموعة قياسات المسافة إلى سحابة ماجلان الكبرى عن طريق رصد خفوت الضوء القادم من نجم واحد يمر أمام شريكه فيما ما يسمى كسوف الأنظمة النجمية الثنائية (Eclipsing binary-star systems). وهذا قد ساعد فريق رييس في تحسين قياس السطوع الفعليّ للنجوم النابضة. حيث تكمن الفريق مع هذه الدقة الإضافية، من تشديد البراغي لبقية سلم المسافة الذي يمتد لعمق الكون.
إن القيمة المقدرة الجديدة لثابت هابل هي 74 كيلومترًا في الثانية لكل ميجابارسك. هذا يعني أنه لكل 3.3 مليون سنة ضوئية لمجرة تبعد عنا، فإنها تبدو لنا أنها تتحرك مسافة 74 كيلومترًا لكل ثانية بشكل أسرع، وهذا كنتيجة لتمدد الكون.
ويشير هذا الرقم إلى أن الكون يتمدد بمعدل أسرع بنسبة 9% من التنبؤ ذو 67 كيلومترًا في الثانية لكل ميجابارسك، والذي يأتي من ملاحظات بلانك للكون المبكر، إلى جانب فهمنا الحالي للكون المبكر.
واحدة من التفسيرات المحتملة لهذا التناقض يتضمن ظهورًا غير متوقع للطاقة المظلمة في الكون المبكر، والذي يُعتقد أنه يشكل 70% من الكون. ويقترح فلكيون من جامعة جونز هوبكينز نظرية يطلق عليها (الطاقة المظلمة المبكرة-early dark energy)، حيث تشير إلى أن الكون تطور مثل مسرحية ثلاثية الفعل.
افترض العلماء بالفعل أن الطاقة المظلمة قد تكون موجودة في الثواني الأولى من ولادة الكون ودفعت المواد في أنحاء الفضاء، حيث بدأ التوسع الأولي. ربما تكون الطاقة المظلمة هي السبب وراء التوسع السريع للكون لما هو عليه اليوم. تشير النظرية إلى أن هناك حلقة ثالثة للطاقة المظلمة بعد فترة ليست بكبيرة بعد الانفجار العظيم، والتي عملت على تمدد الكون بمعدل أسرع مما هو متوقع. وما تبقى من هذه الطاقة المظلمة الأولية يمكن أن يفسر سبب اختلاف قيمتي ثابت هابل.
وهناك فكرة أخرى تقول بأن الكون يحتوي على جسيمات دون ذرية جديدة تتحرك بسرعة مقاربة لسرعة الضوء. وتسمى هذه الجسيمات بالإشعاع المظلم، وتشمل مجموعة من الجسيمات المعروفة بالنيوتريونات، والتي تتكون في المفاعلات النووية.
وهناك فكرة أخرى مثيرة، وهي أن المادة المظلمة، وهي شكل غير مرئي للمادة لا تحتوي بروتونات ولا إلكترونات ولا نيوترونات، تتفاعل بشكل قوي مع المادة العادية أو الإشعاع الذي ذُكر آنفًا. لكن مازال التفسير الحقيقي للاختلاف لغزًا غامضًا.
إن الكون الفسيح في حالة تمدد مستمر، وتلك حقيقة لا يمكن الجدال حولها. وسيظل العلماء باحثين خلف معدل التمدد الحقيقي للكون الحالي، ففريق رييس سيواصل استخدامه لتلسكوب هابل حتى يقلل حالة عدم اليقين إلى 1%، وقد يساعد هذا العلماء على تحديد سبب التناقض بين القيمتين المتوقعة والفعلية المقاسة.
إعداد وتقديم: محمد المصري
المصادر:
عندما يتعلق الأمر بحماية بشرتنا من التأثيرات القاسية لأشعة الشمس، فإن استخدام واقي الشمس أمر…
اكتشف فريق من علماء الآثار 13 مومياء قديمة. وتتميز هذه المومياوات بألسنة وأظافر ذهبية،وتم العثور…
ركز العلماء على الخرسانة الرومانية القديمة كمصدر غير متوقع للإلهام في سعيهم لإنشاء منازل صالحة…
من المعروف أن الجاذبية الصغرى تغير العضلات والعظام وجهاز المناعة والإدراك، ولكن لا يُعرف سوى…
الويب 3.0، الذي يشار إليه غالبًا باسم "الويب اللامركزي"، هو الإصدار التالي للإنترنت. وهو يقوم…
لطالما فتنت المستعرات العظمى علماء الفلك بانفجاراتها القوية التي تضيء الكون. ولكن ما الذي يسبب…
View Comments