أحجية ثلاثية الأبعاد: علماء يعيدون تركيب وجه إنسان ما قبل التاريخ ويكتشفون مفاجأة تقنية مذهلة.
في إنجاز علمي غير مسبوق يدمج بين دقة الحفريات التقليدية وبراعة التكنولوجيا الرقمية الحديثة، نجح فريق دولي من العلماء في إعادة “الحياة” رقمياً إلى وجه أحد أقدم أسلاف البشر، وذلك عبر ترميم جمجمة تعرف بـ (DAN5) تعود لـ “الإنسان المنتصب” (Homo erectus). الاكتشاف الذي خرج من رحم منطقة “غونا” في مثلث العفر الإثيوبي، ونُشرت تفاصيله يوم الأربعاء 17 ديسمبر 2025، لم يقدم لنا مجرد صورة، بل أعاد رسم خارطة طريق الهجرات البشرية الأولى، طارحاً تساؤلات جريئة حول التنوع البيولوجي والقدرات التقنية لأسلافنا قبل 1.5 مليون سنة.
رحلة في عمق التاريخ والتقنية
من شظايا عظمية إلى وجه مكتمل
بدأت القصة في منطقة “غونا” (Gona) الإثيوبية، وهي منطقة تشتهر بكونها مسرحاً لأهم الاكتشافات الأنثروبولوجية في العالم. هناك، عثر العلماء على بقايا جمجمة مفككة تُعرف علمياً باسم (DAN5). وتعود هذه الأحفورة لفترة البليستوسين المبكر، تحديداً ما بين 1.5 إلى 1.6 مليون سنة مضت.
قادت الدكتورة كارين باب، عالمة الأنثروبولوجيا القديمة في كلية الدراسات العليا بجامعة ميدويسترن في أريزونا، فريقاً بحثياً دولياً لمواجهة تحدٍ صعب: كيف يمكن إعادة تجميع شظايا وجه مهشم ومضى عليه ملايين السنين دون إتلافه؟ الحل كان في “الأنثروبولوجيا الافتراضية”.
المنهجية العلمية
استخدم الباحثون تقنية المسح المقطعي المحوسب عالي الدقة (High-resolution Micro-CT Scans) لتصوير أربع قطع رئيسية من الوجه والأسنان التي عثر عليها في أعمال التنقيب عام 2000. تقول الدكتورة “باب” واصفة العملية: “لقد كانت أشبه بأحجية ثلاثية الأبعاد معقدة للغاية، حيث لا تعرف الصورة النهائية مسبقاً. لكن لحسن الحظ، نمتلك معرفة عامة بتشريح الوجوه، مما ساعدنا في عدم البدء من الصفر”.
تمت العملية عبر الخطوات التالية:
المسح الرقمي: تحويل العظام المتحجرة إلى بيانات رقمية دقيقة.
النمذجة: إنشاء نماذج ثلاثية الأبعاد لكل قطعة.
التجميع الافتراضي: قام العلماء بمحاذاة القطع على شاشات الكمبيوتر، وتثبيت الأسنان في الفك العلوي، ثم دمج الوجه المرمم مع “قبو الجمجمة” (Braincase) الذي تم وصفه سابقاً في عام 2000. استغرقت هذه العملية الدقيقة عاماً كاملاً من العمل المستمر والتعديلات المتكررة للوصول إلى النسخة النهائية.
نتائج مذهلة
ما كشفه الترميم كان صادماً للمجتمع العلمي. فعلى الرغم من أن الجمجمة تصنف ضمن نوع “الإنسان المنتصب” وهو النوع الذي يُعتقد أنه أول من غادر إفريقيا وانتشر في آسيا وأوروبا – إلا أن الوجه يحمل سمات “بدائية” للغاية.
الدماغ: صغير الحجم مقارنة بأقرانه.
الوجه: يتميز بجسر أنف مسطح وأضراس كبيرة الحجم.
توضح الدكتورة “باب”: “كنا نعلم أن DAN5 يمتلك دماغاً صغيراً، لكن المفاجأة كانت في الوجه الذي يبدو أكثر بدائية من النموذج الكلاسيكي للإنسان المنتصب الإفريقي المعروف في نفس الفترة الزمنية”. هذا المزيج الغريب (دماغ إنسان منتصب مع وجه يشبه أسلافاً أقدم مثل (Homo habilis) يشير إلى أن سكان منطقة “غونا” ربما احتفظوا بالسمات التشريحية للسكان الأصليين الذين هاجروا من إفريقيا قبل ذلك بنحو 300 ألف سنة.
تحدي السردية التاريخية
تكمن أهمية هذا الاكتشاف في أنه يتحدى الفكرة القائلة بأن “الإنسان المنتصب” تطور بشكل كامل داخل إفريقيا ثم غادرها بملامحه الحديثة. السمات التي وجدها العلماء في (DAN5) تتطابق بشكل مثير للريبة مع حفريات عُثر عليها في موقع “دمانيسي” (Dmanisi) في جورجيا (أوراسيا). يقول الدكتور يوسوكي كايفو من جامعة طوكيو، والمشارك في الدراسة: “لن أنسى الصدمة التي شعرت بها عندما رأيت الوجه المرمم لأول مرة. هذا الاكتشاف يثبت أن السمات الانتقالية كانت موجودة داخل إفريقيا أيضاً، مما يدعم فكرة أن هذا النوع نشأ في القارة السمراء، لكنه يطرح سيناريوهات جديدة حول توقيت وشكل الهجرات الأولى”.
عبقرية صانع الأدوات
لم يقتصر الاكتشاف على العظام، بل امتد للسلوك. يشير الدكتور سيليشي سيماو، المدير المشارك لمشروع غونا البحثي، إلى ملاحظة مذهلة: “من اللافت للنظر أن صاحب الحفرية DAN5 كان يستخدم تقنيتين حجريتين مختلفتين في آن واحد”.
تقنية أولدوان (Oldowan): أدوات حجرية بسيطة (شظايا وقواطع).
تقنية الآشولية (Acheulean): فؤوس يدوية متطورة ومصقولة بعناية. يعد هذا من أقدم الأدلة المباشرة التي تربط بين فرد واحد ونوعين من التقاليد الصناعية الحجرية، مما يشير إلى مرونة عقلية وقدرة على التكيف أكبر مما كنا نتخيل.
آفاق المستقبل
يفتح هذا الاكتشاف الباب أمام فرضيات أكثر تعقيداً. يتساءل العلماء الآن: هل يمثل (DAN5) نتيجة “تزاوج مختلط” بين نوعين بشريين مختلفين؟ تشير الدكتورة سارة فريدلاين من جامعة سنترال فلوريدا، إلى إمكانية وجود تهجين بين “الإنسان المنتصب” الكلاسيكي وأسلاف أقدم مثل “الإنسان الماهر” (Homo habilis). ويخطط الفريق لمقارنة هذه النتائج مع حفريات أوروبية
إن إعادة بناء وجه (DAN5) ليست مجرد تمرين تقني، بل هي نافذة تطل بنا على ماضٍ سحيق، تذكرنا بأن شجرة العائلة البشرية ليست جذعاً مستقيماً، بل هي شبكة معقدة من الفروع المتداخلة. مع كل اكتشاف جديد في تربة إثيوبيا، ندرك أن أسلافنا كانوا أكثر تنوعاً، وأكثر مهارة، وأكثر غموضاً مما كتبنا في كتب التاريخ حتى الآن. وتظل الحاجة ملحة لمزيد من الحفريات التي تعود للفترة ما بين مليون ومليوني سنة لفك طلاسم هذا التداخل الجيني والتشريحي.
مصطلحات:
أشباه البشر (Hominins): مجموعة تشمل البشر الحديثين وأسلافهم المنقرضين (مثل الإنسان المنتصب، والنياندرتال) والقرود العليا التي ترتبط بنا ارتباطاً وثيقاً.
البليستوسين (Pleistocene): حقبة جيولوجية تُعرف أيضاً بالعصر الجليدي، امتدت من 2.5 مليون سنة إلى 11,700 سنة مضت، وشهدت تطور البشر الأوائل.
التصوير المقطعي المحوسب (Micro-CT): تقنية تصوير تستخدم الأشعة السينية لإنشاء صور ثلاثية الأبعاد للبنية الداخلية والخارجية للأجسام بدقة ميكرونية.
في سابقة تشريعية وتاريخية، وبعد عقود طويلة من التكتم، والاتهامات المتبادلة بين نظريات المؤامرة والتفسيرات…
قمر صناعي نانوي يرصد أسرار "الأيونوسفير" وتحمي تكنولوجيا الأرض في خطوة تاريخية تتجاوز مجرد إطلاق…
بقلم: د. طارق قابيل العاصمة الإدارية الجديدة – لم يكن المشهد في العاصمة الإدارية الجديدة…
البروفيسور ماهر القاضي يمثل الابتكار وقود الحضارات ورافعة التقدم الإنساني، ويسجل التاريخ بمداد من ذهب…
لأول مرة في دولة عربية.. مصر تجمع 150 أكاديمية عالمية لربط "العلم بالسياسة" وتطلق معرض…
كيف سيغير "مشروع الجينوم المرجعي" وجه الطب والبحث العلمي في المنطقة؟ في خطوة تاريخية تؤسس…