على مشارف هضبة الجيزة التاريخية، حيث تقف الأهرامات شامخةً كشاهد على عبقرية الماضي، وُلدت أيقونة معمارية جديدة تُعانق هذا التاريخ برؤية المستقبل، مُجسّدةً تطلعات الأمة المصرية. إن الحديث هنا عن المتحف المصري الكبير (Grand Egyptian Museum – GEM)، الذي يُعد تتويجاً لـ “حلم قومي“ طال انتظاره لعقود، ومشروعاً حضارياً عملاقاً يمتد على مساحة نصف مليون متر مربع (نحو 117 فداناً)، ليصبح واحداً من أضخم المتاحف الأثرية في العالم، بواجهة زجاجية عملاقة تطل مباشرة على الأهرامات.
هذا الصرح المعماري الفريد يمثل “هدية مصر للإنسانية“، حيث صُمم ليكون امتداداً بصرياً للأهرامات، معتمداً على تقنيات هندسية ولوجستية فاقت كل التوقعات. فبين جنباته، لا تُعرض الآثار فحسب، بل تُروى “قصة مصر“ بأسرارها الكاملة ولأول مرة، من خلال عرض مجموعة الملك الذهبي توت عنخ آمون بأكملها، وكشف لغز وفاته، وصولاً إلى ترميم مركب خوفو الثانية بعبقرية غير مسبوقة. المتحف ليس مجرد خزانة للآثار، بل هو فصل جديد في كتاب المعجزات المصرية، صُنع بجهد هندسي وتقني وإنساني استغرق سنوات طويلة ووصلت استثماراته لمليار دولار ليصبح أضخم مشروع ثقافي في القرن الحادي والعشرين.
أسرار الهندسة والآثار التي غيّرت مسار التاريخ
الدستور الهندسي: الهوية المصرية ولغة الأرقام الفلكية
لم يكن إنشاء المتحف المصري الكبير مجرد عملية بناء ضخمة؛ بل كان عملية “صياغة فلسفية“ عميقة اعتمدت على أرشيف وثائقي ضخم يُعرف بـ “دستور المتحف“. هذا الدستور تضمن مجلدات من الدراسات المعقدة حول ربط المتحف ببيئته وتاريخه، شملت تحليل حركة الشمس، ونوعية التربة، والعلاقة بين الضوء والطبيعة.
الاستدامة والتقنية: المتحف الأخضر ومنظومة التحكم البيئي
المتحف المصري الكبير هو أول متحف في إفريقيا والشرق الأوسط يحصل على شهادة EDGE Advanced للمباني الخضراء لعام 2024. هذه الخطوة لم تكن رمزية، بل انعكست على البنية التحتية والتشغيلية للمتحف:
بوابة الأسطورة: رمسيس والدرج العظيم
تبدأ رحلة الزائر من ميدان المسلة، عبر الواجهة الزجاجية العملاقة، لتقود إلى بهو عظيم يتوسطه تمثال رمسيس الثاني.
قاعة الملك الذهبي: توت عنخ آمون بين الاكتشاف العلمي واللغز الإنساني
يمثل “جناح الملك توت عنخ آمون“ (الذي تبلغ مساحته نحو 7000 متر مربع) القلب النابض للمتحف، حيث تُعرض لأول مرة المجموعة الكاملة للفرعون الشاب، والبالغ عددها 5398 قطعة أثرية، جُمعت من متاحف مختلفة.
سر موت توت عنخ آمون ونظرية العجلة الحربية:
اللغز الذي طالما شغل العلماء (بين الملاريا، ومرض كوهلر، والاغتيال) يجد الآن دليلاً مادياً جديداً. فإحدى العجلات الحربية الخاصة بالملك تُظهر “تلفاً ميكانيكياً“ في محورها. هذا الدليل الأثري يتماشى مع النظرية التي ترجح وفاة الملك “إثر حادث“ أثناء قيادة العربة الحربية، مما أدى إلى إصابته بكسر خطير في ساقه (كما أثبتت الأشعة المقطعية في دراسات سابقة للدكتور زاهي حواس والدكتورة سحر سليم)، وتسببت في مضاعفات أو عدوى قاتلة. هذا الربط بين الأثر (العجلة) والتحليل الطبي (المومياء) يفتح الباب لـ “علم أمراض ما قبل التاريخ” (Paleopathology) لفهم أعمق لحياة الملوك.
البُعد الإنساني:
يكتمل المشهد بعرض “مومياوات أجنّة توت عنخ آمون“، طفلتاه اللتان وُلدتا ميتتين، إلى جانب كنوزه. هذا العرض يُعد لحظة إنسانية وعلمية فارقة، تُسلط الضوء على المعتقدات المصرية القديمة حول “الخلود“ و”البعث”، وتُضفي بُعداً أسرياً مؤثراً لحياة الملك الشاب.
ملحمة الترميم: إنقاذ مركب خوفو الثانية والخبرة الدولية
تُعد قصة مراكب خوفو (Khufu Ships) مثالاً على التحدي الهندسي والتعاون الدولي في الترميم.
عبقرية النقل الأولى: نُقل المركب الأول بنجاح إلى المتحف دون تفكيك، في إنجاز لوجستي عالمي حظي بتغطية دولية واسعة.
المركب الثاني.. تحدي التجميع: كان المركب الثاني أكثر تعقيداً؛ فقد عُثر عليه مفككاً بالكامل في حفرته، وتكون من نحو 1700 قطعة خشبية، كانت مهددة بالتلف. هنا جاء دور “التعاون المصري الياباني“ عبر مشروع مشترك أطلقته جايكا (JICA)، حيث تم تقديم منح مالية ضخمة (5 ملايين دولار) ودعم فني لفرق الترميم.
المنهج العلمي في الترميم: اعتمدت عملية الاستخراج والترميم على منهج علمي دقيق، حيث تم اكتشاف “ترقيم مصري قديم“ على الأخشاب، مما سَهّل عملية الفرز والتوثيق وإعادة التجميع. يتم الآن العمل على المرحلة النهائية للترميم والتجميع في قاعة خاصة بالمتحف، لاستعراض المركب بكامل هيئته لأول مرة منذ آلاف السنين.
مركز الترميم العالمي وقاعدة البيانات المتكاملة
يُعد مركز الترميم (Conservation Center) بالمتحف المصري الكبير الأكبر والأكثر تقدماً في الشرق الأوسط.
مشروع GEM-JC: بدأ المشروع المشترك للترميم (GEM-JC) في عام 2016 وحتى مارس 2025، بهدف التدريب المشترك بين الخبراء المصريين واليابانيين وتوثيق وحفظ وترميم 72 قطعة أثرية أصلية، معظمها من مجموعة توت عنخ آمون، باستخدام أحدث تقنيات الليزر والأشعة السينية والتحليل الكيميائي هذا المركز سيتحول بعد الافتتاح إلى مؤسسة عالمية لتدريب الكوادر في الترميم والبحث الأثري.
قاعدة البيانات (Digital Archive): يحتفظ المتحف بـ “كنز الوثائق“؛ وهو أرشيف رقمي ضخم، يمثل “قاعدة بيانات متكاملة (Integrated Database)” تربط كل قطعة أثرية بجميع بياناتها (الموقع، التاريخ، الصور، مسار النقل، تقارير الترميم). هذا النظام يخدم الباحثين والأكاديميين، ويُرسخ مبدأ “الحفاظ الرقمي“ و**”الأمانة العلمية”** في إدارة التراث.
الأثر الاقتصادي: المتحف كـ “قاطرة للتنمية“
المتحف المصري الكبير ليس مجرد وجهة ثقافية، بل هو مشروع اقتصادي وتنموي استراتيجي يهدف إلى:
تحفيز السياحة التراثية (Heritage Tourism): من المتوقع أن يكون المتحف “أداة استراتيجية“ لزيادة أعداد الزوار والإنفاق السياحي، حيث يمثل نقطة جذب رئيسية لـ “سياحة اليوم الكامل“، خاصة مع وجود قاعات مؤتمرات، وسينما ثلاثية الأبعاد، ومتحف للأطفال، ومناطق تجارية ومطاعم.
تغيير الخارطة الثقافية للقاهرة والجيزة: يهدف المتحف إلى تحويل تصورات القاهرة والجيزة إلى وجهتين ثقافيتين متكاملتين، تتجاوز مجرد جولات الأهرامات السريعة. كما أن تحسين البنية التحتية، بما في ذلك مطار سفنكس الدولي الجديد (Sphinx International Airport) وروابط النقل المحسّنة، يزيد من كفاءة الوصول إلى الموقع.
“هدية النيل للإنسانية“.. صرحٌ يجمع بين الهوية والعلم والإنسانية
لقد نجح المتحف المصري الكبير، بمساحته الشاسعة وأسلوبه العصري التفاعلي، في تحقيق معادلة صعبة: ربط الهوية الوطنية بعظمة الماضي، والارتقاء بـ المنهج العلمي (Scientific Methodology) من خلال مركز الترميم العالمي وقاعدة البيانات، وتقديم “قصة إنسانية“ متكاملة من خلال كنوز توت عنخ آمون وأسرار حياته ووفاته. إنه صرح عالمي، حصل على جائزة “المشروع الأفضل على مستوى العالم لعام 2024“ من الاتحاد الدولي للمهندسين الاستشاريين (FIDIC)، مما يعزز مكانته كتحفة معمارية ومؤسسة ثقافية رائدة.
إن المتحف المصري الكبير، الذي يستعد لاستقبال الجمهور العالمي (بدءاً من 4 نوفمبر 2025، بعد الافتتاح الرسمي في 1 نوفمبر 2025)، هو شاهد على أن العبقرية المصرية القديمة تجد امتدادها في العبقرية الهندسية والتقنية الحديثة. هذا الصرح العظيم، بتمثال رمسيس الذي تضيئه الشمس، وكنوز توت عنخ آمون التي تكشف سر موته، وعبقرية مراكب الشمس المُرممة، يثبت أن مصر لا زالت هي “هدية النيل للإنسانية“. إنه ليس نهاية الرحلة، بل هو بداية فصل جديد في كتاب مصر الحضاري، يدعو العالم أجمع ليأتي ويشهد كيف يلتقي الماضي والحاضر والمستقبل تحت سقف واحد على هضبة الخلود.
لطالما مثلت مصر، بموقعها الاستراتيجي عند ملتقى قارات إفريقيا وآسيا وأوروبا، نقطة محورية للتفاعل البشري…
لطالما كان أصل الإنسان ورحلاته الأولى حول العالم من أكثر الألغاز إثارةً للجدل والبحث في علم…
في عالمنا المزدحم بالأخبار والأحداث، قد ننسى أحيانًا أن أعظم الأسرار والمفاجآت تأتي من أعماق…
مؤتمر "وكلاء من أجل العلم": رائدو الذكاء الاصطناعي يتولون تأليف ومراجعة الأوراق البحثية لم يعد…
شهدت العقود الثلاثة الماضية تطورات جذرية في قدرة البشرية على قراءة وفهم الشفرة الجينية والبيولوجية…
لقد كان من دواعي سروري البالغ أن أشارك مؤخراً في فعاليات مؤتمر جامعة القاهرة الدولي…