محتويات المقال :
اعتدنا أن ننسب المغامرات الفلسفية الأولى إلى أثينا. بالكاد نعرف شيئا عن المدن الإغريقية الأخرى التي أعطت للتفلسف حيزًا. حسب التاريخ المتفق عليه، لم تعرف أثينا الفلسفة قط قبل أن يدخلها معه أناكساغوراس بدعوة من حاكم أثينا بيريكليز. لا تتميز فلسفة أناكساغوراس بوجود نسق أصيل كما هي الحال مع هيراكليتس ولا هي بفيض شعري كما هي عند أمبادوكليس. ما يمنح فلسفت أناكساغوراس بعض الجاذبية هو مفهوم ناوس (Nous) التي حاول من خلالها أن يسد الصدع الموجودة في الأنطولوجيا القديمة. في هذا المقال سنلقي الضوء على مفهوم ناوس عند أناكساغوراس.
ولد أناكساغوراس في كلازومينيا حوالي عام 500.ق.م. كان من أسرة نبيلة ويملك ثروة طائلة، إلا أنه تخلى عن الثروة سعيًا نحو العلم والفلسفة [1]. كان له علاقة مع الوسط الأثني السياسي والأدبي، فدعاه القيادي والسياسي الأثني بريكليس إلى أثينا لتتحول إلى مركز التفلسف العالمي. ظل في أثينا ثلاثة عقود، لكن الصراع السياسي عصرئذ لم يكن لصالحه، فتم اتهامه بالإلحاد لقوله بأن الشمس والنجوم صخور ملتهبة وأن القمر كوكب. بسبب تلك التهم دخل السجن، وكان سيكون مصيره مصير سقراط لولا تدخل بريكليس الذي ساعده ليهرب من السجن. بعد النفي استقر في لامباسكوس ومات هناك وهو في الثانية والسبعين من العمر[2].
نشر أناكساغوراس كتابه (حول الطبيعة) في سن متأخر، كما أسس مدرسة فلسفية في أواخر حياته.
كما كانت الحال مع الفلاسفة الذين سبقوه، قال أناكساغوراس بعالم قديم، لكنه اختلف معهم في تفاصيل جوهرية. العالم الذي يراه أناكساغوراس عالم ميكانيكي آلي، فهو لا يؤمن بصراع الأضداد مثل هيراكليتس ولا حركة الأبيرون كما أناكسيماندر. في البدء كل أنواع المادة كانت مختلطة في كتلة سديمية، وهذه الكتلة تمتد إلى ما لا نهاية عبر المكان والأنواع المختلفة للمادة، تختلط وتنفذ كل منها في أخرى [3].
هذه البادية كانت هلامية، حيث لم تكن هناك هوية للموجود، كل الأشياء كانت موجودة وغير موجودة في نفس الوقت. يصف تلك البداية بقوله: “كانت جميع الأشياء معًا لا نهاية لها في العدد والصغر، لأن الصغر أيضًا لا نهائي، لما كانت جميع الأشياء معًا فلم يكن ممكنًا لصغرها تمييز أي شيء منها[4].الفيلسوف طاليس وبداية القول الفلسفي
مفهوم العقل-ناوس فيه الكثير من اللبس، ذلك لأنه يوحي بأكثر من معنى، يأتي العقل أحيانًا بمعنى لاهوتي وأحيان أخرى بمعنى طبيعي. في الفلسفة الإغريقية بشكل عام لم يتم تحديد المقصد من العقل بدقة. عند أناكساغوراس، وضع العقل في موقع حرج من الأنطولوجيا الكونية، ما أدى إلى اختلافات تأويلية قديمًا وحديثًا حول جوهرة فلسفته –ناوس.
يبدو أن الكون كان حائرًا قبل أن يكون هناك عقل، كان يتخبط في نفسه دون دليل أو منظم إلى أن جاء العقل. العقل هو العامل المسؤول عن دوران وفصل الخليط البدائي [السديم]، وهو الذي أحدث الحركة البدائية (أنس). حول دور العقل لأناكساغوراس رأيين مختلفين، فتارة يختزل دوره في الحركة الأولى. فيقول، “في البداية كان هناك خليط سديمي من الأنواع المختلفة للمادة، والعقل ادخل دوامة في نقطة وسط هذه الكتلة”[5]. وتارة أخرى يبين أن العقل يذهب في ترتيب تفاصيل العالم.
هذه الطبيعة غير محددة تمامًا وإن وصف أناكساغوراس لا يخلو من اللبس، غير أن ثمة سمات عامة للعقل في فلسفته[6] وهي:
يجد أناكساغوراس في مسألتي الولادة والموت مشكلة فلسفية حقيقية. عندما نقول بالولادة فأننا نشير إلى أن شيء ما دخل إلينا من اللاوجود وفكرة الموت تعني المرور إلى اللاوجود. لأنه لا وجود للاوجود فالولادة غير ممكنة وليس ثمة أفق في اللاوجود ليكون هناك فناء أو موت لينتقل الموجودات إليه. يعلق على المسألة قائلًا: “يخطئ الإغريق بقولهم أن الأشياء تظهر إلى الوجود ثم تختفي. لا شيء يظهر أو يختفي عن الوجود، هناك إنفصال وامتزاج لما هو موجود وحسب”[3].
إذن، من أين تأتي هذه الأشياء الموجودة كلها؟ هل تأتي من العدم أم أنها نتجت من أشياء أخرى؟ للإجابة عن هذا السؤال يقتضي علينا العودة إلى السديم أو الحساء الأولي. هناك مبدأ رئيس في فلسفة أناكساغوراس، كل شيء موجود في كل شيء، يدل المبدأ هذا أن الأشياء موجدة منذ الأزل. لكن كيف كانت تلك الكينونة؟
الوجود –وفقًا لأناكساغوراس – لا يأتي من اللا وجود، بل كل ما هو موجود كائن منذ الأزل على صورة بذور. هذه البذور لا نهائية من حيث الكمية، لكنها تختلف في أشكالها وألوانها ومذاقها وبالتالي فهي لا تتشابه. كل الأشياء كانت توجود في الكل معًا ممتزجةً[6].
وفقًا للمبدأ المذكور فإن الأشياء غير نقية تمامًا، لا توجد مجاميع منفصلة للبذور، بل هي تتجاور، وتتجاوز تخومها المفترضة أيضا لتكون مضمرة في غيرها. يستقل الشيء عن السديم من خلال انفصال عناصره عن الكتلة السديمية بواسطة الوامة الموجودة للأبد.
هنا نتساءل، لماذا احتاج أناكساغوراس إلى إدخال العقل في معادلة الخلق؟ لماذا لم يكتفي مثل سابقيه بفكرة البذور والسديم؟ هنا تبرز الثنائية التي ستكتسح الفلسفة بلا هوادة، ثنائية المادة والعقل. ما دفعه إلى هذا القول هو أنه رفض قدرة المادة وحدها على خلق عالم متسق ومتماسك وجميل. لم يجد في المادة ما يساعدها على أن تتحرر من المادة نفسها لتكوين كيان متسق وجميل؛ فجاء بالعقل كعنصر متميز ومفكر يمكنه أن يقود إلى خلق حسن.
الفيلسوف الذي وهب الفلسفة لأثينا، يعيد ترتيب حسابات الفلسفة الكونية والأنطولوجية والمعرفية. جاءت فلسفته ردًا على النزعة المادية في الفلسفة، ركز سابقوه على العنصر أو العناصر القصوى التي يتشكل منها العالم. بيد أن أناكساغوراس لم يرد أن يتمسك بعنصر ما لتفسير الكثرة الماثلة في العالم. مضى قدمًا نحو تخوم أكثر حرية ورعبًا، العقل-ناوس، هذا المفهوم هو الحجر الأساس في فلسفته. العقل هو الذي حرر الأشياء من الكتلة السديمية البدائية واعطاها هوية.
المصادر:
عندما يتعلق الأمر بحماية بشرتنا من التأثيرات القاسية لأشعة الشمس، فإن استخدام واقي الشمس أمر…
اكتشف فريق من علماء الآثار 13 مومياء قديمة. وتتميز هذه المومياوات بألسنة وأظافر ذهبية،وتم العثور…
ركز العلماء على الخرسانة الرومانية القديمة كمصدر غير متوقع للإلهام في سعيهم لإنشاء منازل صالحة…
من المعروف أن الجاذبية الصغرى تغير العضلات والعظام وجهاز المناعة والإدراك، ولكن لا يُعرف سوى…
الويب 3.0، الذي يشار إليه غالبًا باسم "الويب اللامركزي"، هو الإصدار التالي للإنترنت. وهو يقوم…
لطالما فتنت المستعرات العظمى علماء الفلك بانفجاراتها القوية التي تضيء الكون. ولكن ما الذي يسبب…