محتويات المقال :
بين حرية الفرد ومكانه في المجتمع، تُعرف الفلسفة الفردية على أنها فلسفة سياسية واجتماعية تركز على قيمة الفرد الأخلاقية وحريته ضمن المجتمع. قد يبدو مفهوم الفرد بسيطاً بعض الشيء، لكن فهمه ينطوي على طرق عدّة في كل من الناحية النظرية وتطبيقها. [1]
يعود مصطلح “الفردية” إلى القرن التاسع عشر [1]، لكن هذا الفكر كان موجوداً من قبل. حيث برز في عصر النهضة، وكان يركز آنذاك على سعي الفرد لتحصيل المعرفة، إضافة إلى التركيز على مواهب الفرد وإنجازاته، بغض النظر عن المجتمع. ,تطوّر مفهوم الفردية مع عصر التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر، حيث قام بعض أنصار المنطق والعقلانية بكسر قيود القمع الديني وتحرير الفرد ليتسنى له إيجاد نفسه والتعبير عنها وتحقيق غايتها [5]. أما عن مصطلح “الفردية” بحد ذاته، فقد ظهر في اللغة الفرنسية (individualisme) مع ردود الفعل الأوروبية على الثورة الفرنسية ومصدرها المزعوم في الفكر التنويري. في حقيقة الأمر، وبعد الفوضى والهياج اللذين نتجا عن الثورة الفرنسية، كانت ردود الفعل تجاه مفهوم الفردية سلبيةً ومناهضة، وذلك نتيجة الاضطرابات الاجتماعية التي شهدتها البلاد عقب الثورة. فقد كانت الثورة الفرنسية دليلاً قاطعاً على أن الأفكار التي ترفع من شأن الفرد هي التي تودي، في نهاية المطاف، بالاستقرار والمصلحة الاجتماعية. [6].
يمكن تتبع تاريخ الفلسفة الفردية في مراحل متعددة، فقد برزت في عصر النهضة والتنوير، كما مثلت عماداً أساسياً للثورة الفرنسية وانحلال الأرستقراطية، ووصلت إلى الثورة الصناعية وتطور الرأسمالية أو الديموقراطية. ولكن لا يخلو هذا التاريخ من تجمع آراء تناهض هذا الفكر وتعتبره شراً وتهديداً للتلاحم الاجتماعي [6].
إذاً، ما هي أفكار الفلسفة الفردية؟
تركز هذه الفلسفة على استقلال الفرد وحريته، وتفضل مصالح الفرد الخاصة وترفعها فوق جميع المصالح الجمعية [1]. كما تعارض التدخلات الخارجية بخيارات الفرد، سواء كانت هذه التدخلات من المجتمع أو الدولة أو أية مجموعة أو مؤسسة أخرى [7]. إضافة لذلك، تؤمن الفلسفة الفردية باستقلالية الفرد وباحترام التنوع والحرية على حساب السلطة والامتثال للمجتمع. وكجزء من تركيزها على استقلال الأشخاص وتميزهم، تدعم الفردية تساوي الحقوق بين كل الأفراد من كافة الفئات العرقية والأنواع الاجتماعية والتوجهات الجنسية [8]. كما تركز على أهمية إعطاء الفرد ما أمكن من الحرية لينكبَّ على اهتماماته كما يريد. أما عن المجتمع، ترى الفردية أنه يمثل مجموعة من الأفراد ولا يزيد عن كونه وسيلةً لتحقيق غاياتهم [9].
وفي النظريات الاجتماعية والسياسية، تتمثل الأفكار الفردية بمناصرة حرية الفرد ورفاهه، في حين يعتبر وجود المجتمع متمحوراً حول أفراده وغاياتهم [10]. وترى أن مصالح الفرد العاقل تتحقق بالطريقة الفضلى عن طريق إعطائه الحرية الكاملة وتحميله مسؤولية اختيار أهدافه والوسائل التي سيستخدمها لتحقيق هذه الأهداف والتصرف وفقاً لذلك [1]. وهذه النقطة الجوهرية تعرّض الفلسفة الفردية لانتقاد معارضيها الذين يرون فيها سبباً وراء الانحلال الاجتماعي والفوضى.
على عكس الفردية، ترى الجماعية أن الفرد تابع للوحدة الاجتماعية، سواء كانت متمثلة بالدولة أو الأمة أو العرق أو الطبقة الاجتماعية [1]. ووفقاً لهذه العقلية، تطغى حاجات الجماعة وأهدافها على حاجات الفرد. بالمقابل، لا تنفي الفلسفة الفردية دور الوحدات الاجتماعية، لكنها تركز على حرية الفرد ضمن المجتمع، كما ترى أن مهمة الدول أو الحكومات تتلخص في حماية الأفراد من كافة أشكال الخطر الخارجية أو الداخلية، والكوارث الطبيعية أو تلك المفتعلة كالجرائم أو أعمال الشغب والحرب، وحتى من الأفراد الآخرين [11].
لمعت أسماء عديدة في تاريخ الفلسفة الفردية ممن دعموها وكتبوا عنها ودافعوا عن أفكارها. نذكر منهم الفيلسوف وعالم الاقتصاد الإسكتلندي آدم سميث (1723-1790) والذي عُرف بشكل رئيسي في مجال الاقتصاد السياسي بأفكاره المؤيدة لاقتصاد يتمتع بالحرية، وهذا ما أصبح لاحقاً جزءاً من النظام الاقتصادي المعروف بمبدأ “عدم التدخل” [2].
إضافة لسميث، يقدم كل من الانكليزيين هربرت سبنسر (1820-1903) وجون ستيوارت مل (1806-1873) في كتاباتهما شرحاً وافياً لهذه الفلسفة. كان سبنسر أحد أوائل مؤيدي نظرية التطور وداعمي فكرة تفضيل الفرد على المجتمع [3]. أما ستيوارت فقد تحدث في كتابه “عن الحرية” (1859) عن أهمية إعطاء الأفراد حرية ومساحة لتطوير ذواتهم وشخصياتهم، وهذه الأهمية لا تعود بالنفع على الأفراد فقط، بل على المجتمع ككل، وفقاً لستيوارت [4]. ومما قاله في كتابه المذكور، أن “المصدر الأزلي والثابت للتطور هو الحرية” وهذا يؤكد إيمانه بأهمية الحرية ليس فقط على صعيد شخصي، بل في سبيل التطور عموماً.
وفي ألمانيا، كان الفيلسوف إيمانويل كانت (1724-1804) منادياً بأهمية الحقوق والحريات الفردية مقابل الإكراه، وأن قدرة البشر على تحمل المسؤولية الأخلاقية تعطي لكل فرد كرامته. كما أكد أنه لا ينبغي أن يتخلى الأفراد عن حقوقهم المشروعة مقابل أي شيء [12].
إضافة لهؤلاء، كان الفيلسوف والكتاب الفرنسي فولتير (1694-1778) والفيلسوف السويسري جان جاك روسو (1712-1778) من أنصار الفلسفة الفردية. ورفض هؤلاء المدافعون اللجوء إلى مصدر أرفع من ضمير الفرد. حيث كانوا يعتبرون أن الفرد هو المركز، ووصل بهم الأمر إلى المناداة بحب الذات. هذا ما دفع البعض إلى استشعار أفكار خطيرة في هذه الفلسفة قد تؤدي إلى الفوضى الاجتماعية وانتشار المواقف المتمحورة حول تفضيل الذات [6].
في السياسة، ترتكز الفردية السياسية على تحميل الأفراد مسؤولية رفاه حياتهم، دون الاعتماد على الحكومة، أو أي وكالة خارجية أخرى. ويؤكد هذا المنحى، والمتمثل بأفكار ليبرالية وديموقراطية، على أهمية استقلال الأفراد في اتخاذ قراراتهم السياسية عن طريق انتخابات ديموقراطية يختارون فيها ممثلين عنهم [13].
أما في الاقتصاد، فيتمحور الاقتصاد الفردي حول فكرة تقليل تدخل الحكومة أو انخراطها في الاقتصاد. حيث يعطي داعمو هذا المذهب الاقتصادي الأولوية لمبادئ حرية الاقتصاد والملكية الفردية والمنافسة والمصلحة الذاتية والاعتماد على الذات. وكما ذكرنا سابقاً، تتجلى الفردية في مبدأ عدم التدخل الاقتصادي الرأسمالي والليبرالية الكلاسيكية [14].
اقرأ أيضاً: فلسفة التنوير وتفكيك المقدس
عندما يتعلق الأمر بحماية بشرتنا من التأثيرات القاسية لأشعة الشمس، فإن استخدام واقي الشمس أمر…
اكتشف فريق من علماء الآثار 13 مومياء قديمة. وتتميز هذه المومياوات بألسنة وأظافر ذهبية،وتم العثور…
ركز العلماء على الخرسانة الرومانية القديمة كمصدر غير متوقع للإلهام في سعيهم لإنشاء منازل صالحة…
من المعروف أن الجاذبية الصغرى تغير العضلات والعظام وجهاز المناعة والإدراك، ولكن لا يُعرف سوى…
الويب 3.0، الذي يشار إليه غالبًا باسم "الويب اللامركزي"، هو الإصدار التالي للإنترنت. وهو يقوم…
لطالما فتنت المستعرات العظمى علماء الفلك بانفجاراتها القوية التي تضيء الكون. ولكن ما الذي يسبب…
View Comments