...
Ad

اتخاذ القرار بسرعة أم التأني والتفكير بعناية؟ هذا هو السؤال الذي سعى الباحثون للإجابة عليه في دراسة جديدة تتعمق في الرياضيات وراء اتخاذ القرار. الفريق، المكون من علماء رياضيات من جامعة ولاية فلوريدا، وجامعة يوتا، وجامعة كولورادو، وجامعة هيوستن، شرع في فهم كيف تؤثر ميولنا الأولية والمعلومات الإضافية على اختياراتنا. بقيادة بهارجاف كارامشيد، الأستاذ المساعد في قسم الرياضيات في جامعة ولاية فلوريدا ومعهد الفيزياء الحيوية الجزيئية، طور الباحثون نموذجًا رياضيًا يكشف عن الديناميكيات المعقدة لصنع القرار.

تظهر النتائج التي توصلوا إليها، والتي نشرت في مجلة (Physical Review E)، أنه عندما نتخذ قرارا بسرعة، فإن اختيارنا يتأثر أكثر بتحيزنا الأولي. ومن ناحية أخرى، فإن أخذ الوقت لجمع المزيد من المعلومات يؤدي إلى قرارات أقل تحيزًا. ولكن ماذا يحدث بالضبط عندما نتخذ قرارًا، وكيف تتفاعل معتقداتنا الأولية ومعلوماتنا الجديدة لتشكيل اختياراتنا؟ تكمن الإجابات في التفاعل المعقد بين الرياضيات وعلم النفس والسلوك البشري.

التأثيرات الخفية على اختياراتنا

لقد كان مفهوم اتخاذ القرار موضوع اهتمام لعدة قرون، حيث كان الفلاسفة اليونانيون القدماء مثل أرسطو وأفلاطون يفكرون في طبيعة الحكم البشري. في العصر الحديث، نما مجال نظرية اتخاذ القرار ليشمل مجموعة واسعة من التخصصات، بما في ذلك علم النفس والاقتصاد والرياضيات. وأحد أهم التحديات في فهم عملية صنع القرار هو التعرف على التأثيرات الخفية التي تشكل خياراتنا.

أحد هذه التأثيرات هو دور التحيز الأولي، والذي يمكن أن يؤثر بشكل كبير على نتيجة القرار. يشير التحيز الأولي إلى الميل نحو خيار واحد على حساب خيار آخر، وغالبًا ما يعتمد ذلك على التجارب السابقة أو العواطف أو العوامل الخارجية. يمكن أن يكون هذا التحيز دقيقًا للغاية لدرجة أننا قد لا ندرك وجوده، ومع ذلك يمكن أن يؤثر بشكل عميق على الطريقة التي نقيم بها المعلومات ونتخذ القرارات.

وفي سياق اتخاذ القرار الجماعي، يمكن أن يكون للتحيز الأولي تأثير عميق على النتيجة. فعندما يتعرض الأفراد داخل المجموعة لنفس التحيز، يمكن أن يؤدي ذلك إلى ظاهرة تعرف باسم “التفكير الجماعي” (Groupthink)، حيث تصبح المجموعة ككل متحيزة تجاه خيار معين. ويمكن أن يؤدي هذا إلى قرارات دون المستوى الأمثل، حيث تفشل المجموعة في تقييم وجهات نظر بديلة أو تقييم المعلومات المتاحة بشكل نقدي.

الرياضيات وراء اتخاذ القرار

نبذة تاريخية عن نماذج صنع القرار

يعود مفهوم نماذج اتخاذ القرار (Decision-making models) إلى أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، عندما وضع علماء الرياضيات مثل جون فون نيومان وأوسكار مورجنسترن الأساس لنظرية الألعاب (Game theory). قدم هذا الإطار نهجًا رياضيًا لفهم عملية صنع القرار في ظل عدم اليقين. وفي وقت لاحق، قدم علماء النفس مثل هربرت سيمون ودانيال كانيمان مساهمات كبيرة في مجال الاقتصاد السلوكي (Behavioral economics)، وكشفوا عن التحيزات المعرفية والاستدلالات التي تؤثر على عملية صنع القرار البشري.

أحد نماذج اتخاذ القرار الأكثر تأثيرًا هو نموذج الانتشار الانجرافي (Drift diffusion model)، والذي تم استخدامه على نطاق واسع في علم النفس وعلم الأعصاب. ويجمع هذا النموذج بين مفهوم “الانجراف” أو التراكم التدريجي للأدلة، و”الانتشار” أو التقلبات العشوائية في عملية صنع القرار. واستخدم الباحثون أشكالًا مختلفة من هذا النموذج لدراسة عملية صنع القرار في سياقات مختلفة، بدءًا من المهام الإدراكية البسيطة وحتى القرارات الاجتماعية المعقدة.

كيف يؤثر التحيز الأولي على قراراتنا؟

هل سبق لك أن تساءلت عن سبب ميلك إلى التمسك بانطباعك الأولي عن شخص أو شيء ما، حتى عندما تواجه معلومات متناقضة؟ هذا بسبب ما يسمى بالتحيز الأولي، وهي ظاهرة لها تأثير عميق على عملية صنع القرار لدينا.

وفقا للبحث، عندما نواجه قرارًا ما، فإن تحيزنا الأولي يلعب دورا هاما في تشكيل خيارنا. ويمكن أن يكون هذا التحيز بمثابة ميل غير واعٍ لتفضيل خيار على آخر، وغالبًا ما يعتمد على تجارب سابقة أو تأثيرات ثقافية أو أعراف اجتماعية.

في سياق نموذج الرياضيات وراء اتخاذ القرار الذي طوره الباحثون، فإن التحيز الأولي يجعل من يتخذون القرار الأوائل في المجموعة يتوصلون إلى استنتاج خاطئ بنسبة مذهلة تصل إلى 50٪ من الوقت. وذلك لأن تحيزهم الأولي يؤثر على عملية اتخاذ القرار لديهم، مما يدفعهم إلى تفسير المعلومات اللاحقة بطريقة تؤكد انطباعهم الأولي.

ولكن، مع توفر المزيد من المعلومات، يبدأ تأثير التحيز الأولي في التلاشي. ووجد الباحثون أنه عندما ينتظر صناع القرار جمع المزيد من المعلومات، تصبح قراراتهم أقل تحيزًا وأكثر دقة. وذلك لأن الأدلة الإضافية تساعد على موازنة التحيز الأولي، مما يسمح باتخاذ قرار أكثر عقلانية واستنارة.

قوة جمع المزيد من المعلومات

عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرارات، فإن أحد العوامل الأكثر أهمية هو كمية المعلومات التي نجمعها قبل التوصل إلى نتيجة. ووفقاً للباحثين، كلما زادت المعلومات التي نحصل عليها، كلما كان قرارنا أقل تحيزاً. ولكن كيف يعمل هذا بالضبط؟

يمكن إرجاع هذه الظاهرة إلى مفهوم “الانتشار” في نموذج الانتشار الانجرافي. فعندما يتم تقديم معلومات جديدة، فإنها تقدم تقلبًا عشوائيًا، أو “ضجيجًا”، في عملية صنع القرار. ويساعد هذا الضجيج على تخفيف تأثير التحيز الأولي، مما يسمح لصانع القرار بدراسة الخيارات البديلة بشكل أكثر موضوعية.

إذًا، ماذا يعني هذا بالنسبة لنا في مواقف الحياة الواقعية؟ إنه يسلط الضوء على أهمية أخذ وقتنا، وجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات، ووزن خياراتنا بعناية قبل اتخاذ القرار. ومن خلال القيام بذلك، يمكننا تقليل تأثير تحيزاتنا واتخاذ خيارات أكثر استنارة.

تطبيقات نموذج الرياضيات الجديد

يمكن استخدام النموذج الرياضي الجديد لتحديد متى يحدث التفكير الجماعي، حيث قد يتأثر الأفراد بشكل غير ضروري بالقرارات المبكرة أو يتوافقون مع وجهة نظر معينة. ومن خلال فهم الرياضيات الأساسية وراء صنع القرار، يمكن للمجموعات اتخاذ خطوات لتجنب هذه التحيزات واتخاذ خيارات أكثر استنارة.

لكن التطبيقات لا تتوقف عند هذا الحد. حيث يساعد هذا العمل في وصف سيناريوهات معقدة أخرى مع العديد من الجهات الفاعلة الفردية، مثل الجهاز المناعي أو سلوك الخلايا العصبية.

المصادر

Think fast — or not: Mathematics behind decision making | science daily

Fast decisions reflect biases; slow decisions do not | physical review E

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


رياضيات

User Avatar


عدد مقالات الكاتب : 546
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Seraphinite AcceleratorOptimized by Seraphinite Accelerator
Turns on site high speed to be attractive for people and search engines.