علم الإنسان

هل تحقق التدخلات الإنسانية من قبل المنظمات الدولية النتائج المرجوّة منها؟

هل تحقق التدخلات الإنسانية للمنظمات الدولية النتائج المرجوّة منها؟

في ظل نشاط المنظمات الدولية بمناطق النزاع، يجيب العلم عمّا إذا كانت التدخلات الإنسانية لبعض المنظمات بتقديم برامج التكيّف لليافعين واليافعات، تجدي نفعها أم لا.

التدخل«Intervention» التي سنسلّط الضوء عليها اليوم هي من قبل منظمة «Mercy Corps»، وهي منظمة غير ربحية يقع مقرها الرئيسي في بورتلاند-أوريغون وتتبع لها مبادرة “Youth Take” أو بالعربيّة برنامج “نبادر”، الذي يأخذ على عاتقه تعليم إدارة الضغوط ومهارات العلاقات بين الفئات العمرية الحساسة من 11 وحتى 18عاماً ويستهدف على نحو خاصّ الأطفال المتضرّرين من النزاعات والحروب والكوارث الأخرى.

التدخلات الإنسانية مع اللاجئين

في سنة 2015، قُدّمت تسريحات معاصرة لما يقارب 800 يافع ويافعة في مخيّم شمال الأردن بغرض أخذ 100 خصلة شعر من رؤوسهم، نصفُهم كان لاجئون سوريون والنصفُ الآخر من سكان المنطقة الأردنيين. الغرض من الخصل هو الاستفادة منها مخبرياً لدراسة جدوى برنامج من تنسيق «نبادر»، صُمّم لزيادة تكيّف اليافعين في مرحلة ما بعد النزوح.

إنّ إيجاد الطرق لمساعدة هؤلاء الأطفال في الوقت الحالي أبدى من أي وقت مضى، فمن بين مئات ملايين الشباب الذين يعيشون في بلاد مزّقها النزاع المسلّح، تقريباً من  15 وحتى 20 بالمئة منهم قد تصيبهم اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD) واضطرابات نفسية وعقلية أخرى.

بمَ ستفيد الخصلات؟

شرحت دكتورة البيولوجيا الجزيئية «رنا دجاني» من جامعة الهاشمية في محافظة الزرقا للأطفال، أن هذه الخصل من الشعر تتصرف كموثّق بيولوجيّ لأيامهم، فالمواد الكيميائية المفرَزة داخل الشعر وأهمها الكورتيزول، توثّق مستويات الإجهاد الذي يعاني منه اليافعين، وسيتمّ قياس هذه المواد قبل وبعد مشاركتهم في برنامج صمّم لزيادة التأقلم لليافعين.

نقلت الخصلات التي أخذت من شعر اليافعين إلى مختبر في جامعة ويسترن اونتاريو في لندن، كندا. قام العلماء هناك بفحص العيّنات وقياس مستويات هرمون الإجهاد “الكورتيزول”، في حين قام علماء مساعدون في الأردن بمقابلة اليافعين والتحدّث معهم عن الصدمات السابقة التي تعرّضوا لها وعن الضغوط الحالية.

وخلال ذلك، أدلى السوريّون من اليافعين وسطياً ستة تجارب صادمة من مشاهد الحرب التي اختبروها، أغلبها مشاهدة إلقاء القنابل والتعرّض لتفتيش منازلهم عنوةً أو تدميرها.

كانت الدكتورة دجاني جزءاً من هذا الفريق المساعد واستمعت إلى قصص الأطقال المهولة، وتساءلت عندها عمّا إن كانت جلسات “نبادر”، المدعومة من قبل Mercy Corps والملخّصة بستّة عشر جلسة من التدريب النفسي لديها القدرة للتوصّل إلى هدف للمنظّمة وهو زيادة التكيف عن طريق تخفيف وطء الإجهاد على اليافعين، وتقوية العلاقات، وشفاء ندوب خلّفها النزاع.

مدى فعالية التدخلات الإنسانية

وهذا يضعنا أمام السؤال، هل العلاجات التي تسعى لتسهيل التأقلم للأطفال والمطوّرة منذ سبعينات القرن الماضي، تهدف لتعزيز الصحّة النفسيّة والعقليّة للأطفال بمساعدتهم على التماشي مع ظروف الحرب والتهجير؟ أم  أنّها تسعى لمنع مضاعفات أعنف للصحّة العقليّة للأطفال؟

إن نتائج برامج التأقلم القليلة التي قيّمها العلماء تدلي بنتائج مختلطة، ففي عام 2016 نُشر مقال في «Current Psychiatry Reports» يظهر معلومات عن تطبيق 24 من برامج الصحة النفسيّة والعقليّة في تسع بلدان، من ضمنها البوسنة والهرسك، أوغندا ونيبال.على الرغم أن وجد الباحثون أثراً إيجابياً على الصحة النفسيّة إلا أن أقل من نصف هذه البرامج حقّقت الهدف المبتغى منها.

فكان من المثير أن بعض البرامج نجحت في دولة بينما لم تنجح في أخرى؛ كما يحدّث «Wiestse Tol»  وهو أحد الناشرين لهذا المقال وباحث في الصحة العقليّة في جامعة جون هوبكنز:

“فعلى سبيل المثال، إنّ تعليم الضبط العاطفي لأطفال مجنّدين سابقاً في سييرا ليون حسّن من علاقاتهم الاجتماعيّة، بينما تطبيق برنامج مماثل على أطفال فلسطينيّين زاد من أعراض اضطرابات ما بعد الصدمة.”

وفي دراسة أقيمت في نيبال، ظهر أنّ الانخراط في حركة سياسيّة تحمي الحالة النفسيّة العقليّة بين أطفال مجنّدين سابقاً. وعلى النقيض من ذلك، ظهر أن الانخراط السياسي لأطفال البوسنة يعطي نتائج مناقضة.

فما هو السبب إذن وراء هذه النتائج المتنافرة؟

Related Post

يجيب Tol، إن العوامل التي تدعم الصحة النفسية العقليّة في أحد المواقف قد تكون غير مفيدة بل قد تكون خطرة في موقفٍ آخر. ورغم هذه النتائج، إلّا أنّ منحى التعلّم مطمئِن، فالباحثون يظهرون لنا أنّ غرز التكيف بين اليافعين المتأثرين بالنزاعات هو ممكنٌ.

تقدّم لنا عالمة الانثروبولجي الطبيّة من جامعة ييل، كاثرين بانتر بريك، ثلاثة أبعاد للتأقلم هم: الشجاعة الذاتية، العلاقات مع الأسرة والأقران، و الدعم المجتمعيّ.

وإن مبادرة “نبادر” تركّز على تطبيق البعد الأوّل، فبين 2014 و 2016،  اشترك أكثر من 4000 يافع يعاني من مضاعفات في الصحة العقليّة و تواصل ضعيف مع المجتمع في برامج مُدارة من قبل أفرع منظّمة Mercy Corps في الشرق الأوسط.

البرنامج المكثّف الذي طبّقتاه بانتر بريك ودجاني في الأردن استمرّ لشهرين، اجتمع خلالهما اليافعين مرتين أسبوعياً في مركز للشباب وساهموا بأنشطة جماعيّة من اختيارهم، منها ممارسة كرة القدم، الحياكة، وتصليح معدّات الحواسيب، تشجّع هذه الأنشطة الروابط الاجتماعيّة وتبني الثقة وتعزّز روح المنافسة.

كما تعلّم الأطفال على مدار الشهرين كيف للجهد المزمن أن يؤثّر على الدماغ، كضعف التحكّم في المشاعر. كما مارس المدربون مهارات تنمية العلاقات مع اليافعين، كالتعبير عن الوجدان والتعاطف.

نتائج معدّلات الكورتيزول المرتقبة

إذن ماحدث لمعدلات الكورتيزول قبل الاشتراك في علاجات التأقلم وبعدها؟

انخفضت معدلات الكورتيزول لمجموعة العلاجات لنحو الثلث، وفي مجموعة فرعية التي لديها إحصائياً مستويات أخف من الكورتيزول – وهي ظاهرة مرتبطة بارتفاع خطر الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة- فإن إفراز الكورتيزول زاد بحوالي 60% وهو مؤشر إيجابي وصحّي. مما يظهر أن المشاركة في البرنامج كان أفضل من عدمه.

لقد احتفت Mercy Corps بهذه النتائج واعتبرتها نجاحاً، إلا أنّ دجاني وبانتر بريك كان لهما رأياً آخر، إذ لاحظوا فروقات على أرض الواقع:

رغم أن اليافعين أصبح لديهم مخاوف وضغوط أقل، لكن الدراسة لم تحقق تعريف التأقلم بشكله الدقيق، كما لم يظهر أن البرنامج قد مكّن من الدعم المجتمعي لدى اليافعين. أحد شكوك دجاني وبانتر بريك حول الموضوع أنّه من أسباب حدوث ذلك هو استمرار العلاجات لثمانية أسابيع فقط وتخصيصها لتحقيق بُعدٍ واحدٍ من أبعاد التأقلم وهو الشجاعة الذاتية، فكما تقول الدكتور دجاني: “تستطيع الذهاب كلّ يوم إلى مركز يقدّم برامج ممتازة لضمان التأقلم، لكن إن عدت وأمضيت بقية يومك مع ظروف حياة رهيبة لك ولعائلتك، فبمَ ينفع ذلك؟”

تقوم منظمات غير ربحية أخرى بتطبيق العلوم على علاجات التأقلم، ففي لبنان، قام فرع من المنظمة غير الربحية «War Child Holland» -الذي يساعد الأطفال الموجودين ضمن نطاقات النزاع- بتطوير ثلاثة مساعي تهدف للتأقلم وهي: برنامج للمهارات الحياتيّة، وبرنامج لتخفيف الضغط على الأهالي، وعلاجات للصحة النفسية من منظمة الصحة العالمية للاجئين السوريين.

الهدف الأسمى لهذه المنظمة هو إيجاد الطريقة الفضلى لدعم التأقلم في الأفراد، العائلة، والمجتمع دفعةً واحدة، وفق كلام مدير War Child Holland في امستردام، مارك جوردانز.

ثمّة عِبرٌ كثيرةٌ تتجلّى جرّاء العمل في مناطق النزاع، تختصرها الدكتور بريك-بانتر بقولها:” ليس الغرض من علاجات التأقلم هو إنقاذ الضحايا من العشواء التي يعيشون بها، بل إنّه عن إيجاد وتحديد مراكز القوة في اليافعين، التي بإطلاقها تقودهم إلى النجاة، وحتى إلى الازدهار، نحن نتكلّم عن إعادة تشكيل العدسات التي ترى بها العالم، لتخلق للناس شعوراً باحترامك لكراماتهم”.

المصدر

Science

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]
Author: Khuzama Wardeh

Khuzama Wardeh

View Comments

Share
Published by
Khuzama Wardeh

Recent Posts

ابتكار واقي شمس بتقنية جديدة لتبريد الجلد

عندما يتعلق الأمر بحماية بشرتنا من التأثيرات القاسية لأشعة الشمس، فإن استخدام واقي الشمس أمر…

يوم واحد ago

العثور على مومياوات مصرية قديمة بألسنة وأظافر ذهبية

اكتشف فريق من علماء الآثار 13 مومياء قديمة. وتتميز هذه المومياوات بألسنة وأظافر ذهبية،وتم العثور…

يوم واحد ago

بناء منازل على المريخ باستخدام الدم البشري

ركز العلماء على الخرسانة الرومانية القديمة كمصدر غير متوقع للإلهام في سعيهم لإنشاء منازل صالحة…

يوم واحد ago

خلايا المخ تتطور بشكل أسرع في الفضاء وتظل بحالة جيدة!

من المعروف أن الجاذبية الصغرى تغير العضلات والعظام وجهاز المناعة والإدراك، ولكن لا يُعرف سوى…

يومين ago

ما هو الويب 3.0 وكيف سيحمي بيانات المستخدمين وخصوصيتهم؟

الويب 3.0، الذي يشار إليه غالبًا باسم "الويب اللامركزي"، هو الإصدار التالي للإنترنت. وهو يقوم…

يومين ago

كيف يمكن مشاهدة انفجار المستعر الأعظم قبل حدوثه؟

لطالما فتنت المستعرات العظمى علماء الفلك بانفجاراتها القوية التي تضيء الكون. ولكن ما الذي يسبب…

يومين ago