إن الاهتمام بدراسة الشعوب والأمم المجاورة، موجود في كل زمن. ولو عدنا لكتابات المسلمين حول الشعوب المجاورة لهم، سنجد الكثير وتحديدا في أدب الرحلات. وقد ترك الرحالة المسلمون كتابات وصفوا فيها الأمم المجاورة، وحضارتها وآدابها وعلومها. ونقلوا من خلال هذه الكتابات تصوراتهم عنها. ويمكن القول أن هذا الوصف كان تقييما وحكما على الأخر من خلال الذات، فكانت قراءة للأخر المختلف في مرآة الأنا. وإذا كان الاستشراق يمثل محاولة للبحث والتعرف إلى الآخر، والانفتاح على فكره وثقافته، ونقل صورته كونه مختلفا. وكون هذا الاختلاف ينبع من خلال مقارنة الأنا بالآخر، فالاستشراق يمثل قراءة المعطيات المتصلة بالشرق، من حضارة وثقافة وما يتصل به. من خلال ما تعكسه مرآة الغرب عنه، بصفته مغايرا ومختلفا. خاصة أن الشرق بتعبير إدوارد سعيد، يمثل “أعمق صور الأخر وأكثرها تواترا لدى الأوروبيين”[1 ]. وبالتالي الاستشراق هو صورة الشرق من وجهة نظر غربية. وسنتحدث في هذا المقال عن مفهوم الاستشراق بصورة أعمق.
محتويات المقال :
لفظة الاستشراق هي تعريب للمصطلح الإنجليزي 《ORIENTALISM》، وهي بهذه الصياغة الصرفية غير موجودة في معاجم اللغة العربية القديمة. ومع ذلك لم تخل معاجم اللغة العربية الحديثة من هذه اللفظة، كمرادف للمصطلح الغربي. فهي مصدر للفعل استشرق، ومدرجة في معاجم اللغة الحديثة تحت مادة شَرَقَ.
واستشرق في معجم “متن اللغة”: “طلب علوم أهل الشرق ولغاتهم”[2]. وخصصت اللفظة بعلماء الغرب، “ويقال لمن يعنى بذلك من علماء الفرنجة”[3 ]. وهو أيضا “عناية واهتمام بشؤون الشرق وثقافاته ولغاته، وأسلوب غربيّ للسيطرة على الشرق وإعادة بنائه وبسط النفوذ عليه”[4]. ويشير صاحب المعجم الأول أن هذه اللفظة “مولدة عصرية”[5]. وبالتالي وجودها في معاجم اللغة الحديثة يعني أن كلمة استشراق بمعناها المرادف لكلمة 《ORIENTALISM》ذات المفهوم الغربي كلمة مستحدثة.
والاستشراق كفعل كان أسبق تاريخيا من ظهور المصطلح. حتى أن لفظة “الاستشراق” و”المستشرق” عام [1095هـ/1683م] كان يُعنى بها” أحد أعضاء الكنيسة الشرقية”[6]. وبالتالي هي كلمة حديثة، حتى في اللغتين الانجليزية والفرنسية. وظهرت كلمة مستشرق في الانجليزية لأول مرة في إنجلترا، عام [1193هـ/1779م]. ثم ظهرت في فرنسا عام [1214هـ/1799م] [7]. أما في العربية، فقد ظهرت وانتشرت في النصف الثاني من القرن العشرين [8].
يعبر مصطلح الاستشراق عن الاهتمام العلمي بالشرق، مهما كانت الغاية من هذا الاهتمام. ومع تعدد الدراسات التي أرّخت لموضوع الاستشراق، تعددت تعريفاته. لدرجة أن خبراء الاستشراق اعتبروا أن تدوين تعريف دقيق جامع مانع للاستشراق، أمر مستحيل! [9]
ومهما تعددت التعريفات، يبقى الاستشراق متصلا بالشرق. وبالتالي وجب تحديد مفهوم الشرق الجغرافي، الذي يقوم عليه الاستشراق، كمصطلح وكفعل أولًا. فـ “الشرق جغرافيا لا يدل على شيء ثابت، أنما هو حد نسبي، يمكن أن ينطبق على كل صقع من أصقاع المعمورة”[10].
وقد تنبه المستشرق رودي بارت[11] إلى أهمية تحديد الشرق جغرافيا. حيث يشير إلى أن المصطلح مشتق من “شرق” أي مشرق الشمس. وبذلك الاستشراق هو علم الشرق [12]. ويضيف “أن الشرق الذي يختص به الاستشراق، مكانه جغرافيا في الناحية الجنوبية الشرقية بالقياس إلينا” [13].
والمصطلح يرجع إلى عصور قديمة كان فيها البحر المتوسط وسط العالم، وكانت الجهات تتحدد بالنسبة إليه. وحتى مع تغير ثقل الأحداث السياسية، بقي المفهوم على حاله، فالشرق هو شرق البحر المتوسط. إلى أن اتّسع مدلولها مع الفتوحات الإسلامية لتشمل مصر وشمال إفريقيا أيضا [14].
تعددت تعريفات الاستشراق بتعدد الدراسات التي تناولته. وبعض هذه التعريفات عام واسع شمل دراسة الشرق، وما يتصل به من لغة وتاريخ وحضارة وغيرها. والبعض الآخر خصّ به دراسة الحضارة العربية الإسلامية. ومن أشهر تعريفات الاستشراق تعريف إدوارد سعيد، فهو تعبير أطلقه في كتابه “الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق”. وعنى به “التفاهم مع الشرق بأسلوب قائم على المكانة الخاصة، التي يشغلها الشرق في الخبرة الأوروبية الغربية” [15]. أي إدراك واستيعاب الشرق استنادًا على الصورة التي بناها الغرب عن الشرق. كونه مجاورا لأوروبا، ومصدرا لحضارتها ولغاتها، ومنافسها الثقافي. وهو الصورة والفكرة والشخصية والخبرة المضادة للغرب منذ القدم [16].
كما اعتبره “أسلوبا للخطاب [التفكير والكلام] تدعمه مؤسسات ومفردات وبحوث علمية، وصور ومذاهب فكرية، بل وبيروقراطيات استعمارية، وأساليب استعمارية” [ 17]. وسعيد هنا يعرّف المفهوم موظفا أو مستندا على فكرة الخطاب، التي طرحها ميشيل فوكو. حيث توصل إلى حجة مفادها، أن الاستشراق نظام خطابي. تمكنت من خلاله الثقافة الأوروبية من إنتاج الشرق بل وابتداعه [18].
ويقصد سعيد بالاستشراق عدة أمور يعتمد بعضها على بعض، أولها وأوسعها هو أنه مبحث أكاديمي. “فالمستشرق كل من يعمل بالتدريس أو الكتابة أو إجراء البحوث، في موضوعات خاصة بالشرق. سواء كان ذلك في مجال الأنثروبولوجيا أي علم الإنسان، أو علم الاجتماع، أو التاريخ، أو فقه اللغة. وسواء كان ذلك يتصل بجوانب الشرق العامة أو الخاصة، والاستشراق وصف لهذا العمل” [19]. أما في معناه الأعم والأشمل قصد به: (أسلوب تفكير، يقوم على التمييز الوجوديّ والمعرفيّ. بين ما يسمّى “الشرق”، وبين ما يسمّى “الغرب”)[20].
ومن ناحية أخرى يرى سعيد أن الاستشراق هو “المؤسسة الجماعية للتعامل مع الشرق. والتعامل معه يعني التحدث عنه، واعتماد آراء معينة عنه، ووصفه، وتدريسه للطلاب، وتسوية الأوضاع فيه، والسيطرة عليه. باختصار بصفة الاستشراق أسلوبا غربيا للهيمنة على الشرق، وإعادة بنائه، والتسلّط عليه” [21]. وقد حدد سعيد نقطة انطلاق زمنية للاستشراق بهذا المعنى، وهي القرن الثامن عشر الميلاديّ.
وبالنظر إلى ما أورده سعيد من تعريفات للاستشراق، نلاحظ أنه يصف الاستشراق ويحدّد وظيفته. وهو يوظف في تعريفه غاية يريد إيصالها للمتلقي، وهي أن الاستشراق هو دليل السيطرة والهيمنة الغربية على الشرق. وذلك من خلال ربطه لأفكار فوكو عن السلطة والمعرفة، وتحديدا السلطة التي تنتج المعرفة.
يشير بيرنارد لويس أن كلمة الاستشراق في الماضي كانت تعبر عن مدرسة في الفن. وهم مجموعة من الفنانين الأوروبيين، كانوا يرتحلون إلى الشرق ويرسمون ما يرونه ويتخيلونه بطريقة رومانطيقية وغرائبية مدهشة. أما المعنى الثاني وهو الذي يهمنا هنا وهو اختصاص علمي، وهذه الكلمة مع العلم الذي تدل عليه تعود إلى عصر التوسع للعلم في أوروبا في عصر النهضة [22].
ويرى أحد الباحثين أن الاستشراق هو ظاهرة علمية، فبالرغم من أنه علم من العلوم الإنسانية. إلا أنه لا يتمتع كبقية العلوم بالديمومة والثبات والاستقرار، فأطلق عليه تسمية “الظاهرة العلمية” [23]. فالاستشراق -حسب رأيه- مر بمراحل متعددة، من دينية إلى سياسية إلى علمية. وكل مرحلة تتميز بخصائص مختلفة عن سابقتها، تبعا للأغراض والموضوعات التي يتناولها. وهو لا يتصف بالاستمرار والثبات، فهو على وشك الزوال. فقد تناقصت موضوعاته وانتهت أغراضه، ولم يعد هناك جديد يقدمه [24].
ويمكن النظر إلى تلك الحركة على أنها ظاهرة معقدة ومتنامية، مستمدة من الاتجاه التاريخي العام للتوسع الأوروبي الحديث. وتنطوي على مجموعة كاملة من المؤسسات الآخذة في التوسع تدريجيا، وهي مجموعة مبدئية تراكمية من النظرية والممارسة. وهي بنية فكرية أيديولوجية متناسبة مع جهاز من الافتراضات، والمعتقدات، والصور، والمنتجات الأدبية، والعقلنة. وهو ما أطلق عليه صادق جلال العظم “الاستشراق المؤسسي” [25] [26]. ومع ذلك يبقى تعريف بعض الباحثين للاستشراق في المعنى العام والواسع حاضرا. على سبيل المثال يعرف بمعناه الواسع على أنه علم يدرس لغات وشعوب الشرق، وتراثهم، وحضارتهم، ومجتمعاتهم، وماضيهم، وحاضرهم، وبالتحديد الدراسات المتعلقة بالشرق الأوسط [27].
اختلفت آراء الباحثين حول بداية الاستشراق، فليس هناك اتفاق على تاريخ محدد لبدايته. فمنهم من ربطه بحدث وتاريخ محدد أو بقرن معين. وبالعودة إلى سعيد، يعتبر عام [712هـ/1312م] تاريخا رسميا لبداية الاستشراق. وفيه اتخذ مجمع الكنائس في فيينا قرارا بإنشاء كراس للدراسات العربية والعبرية واليونانية والسريانية في الجامعات [28]. إلا أن الاختلاف لا يزال موجودا، فيرى باحث آخر أن الاستشراق بدأ رسميا في القرن الثامن عشر. لأن كلمة [Orientalism] قد دخلت معاجم اللغة في منتصف هذا القرن [29].
ويعتقد رودي بارت أن البداية للدراسات العربية والإسلامية ترجع إلى القرن الثاني عشر، وتحديدا إلى عام [538هـ/1143م]. حيث ترجم روبرت كتون القرآن لأول مرة إلى اللاتينية. وشكلت هذه الترجمة المعلم البارز والأساسي، في مجال الدراسات الإسلامية بأوروبا الوسيطة. وفي نفس القرن أيضا نشأ أول قاموس لاتيني عربي [30].
وعارض ذلك رضوان السيد، ويرى أن ترجمة القرآن من العربية لأول مرة في القرن الثاني عشر الميلادي، وقرار مجمع فينا في القرن الذي يليه، وما يشابهها من جهود حتى مطلع القرن السادس عشر، ليست استشراقا؛ لأن مقاصدها تبشيرية وليست معرفية. كما أنها جزء من الحروب الدائرة بين المسيحية والإسلام منذ ظهوره في القرن السابع الميلادي [31].
وقد أخذت تلك الحركة بالتبلور حسب رأي طيب تيزيني [32]، مع نشأة الاستعمار الرأسمالي والامبريالية. ويرى أن الاستشراق بأشكاله البسيطة، بدأ مع الملامسات الأولى بين أوروبا الصاعدة باتجاه الثورة البرجوازية. والشرق الذي كان قد ودع مراحل الازدهار الحضاري، في العصور الوسيطة العربية. وذلك مع بداية الحروب الصليبية وما تلاها من تطورات اقتصادية وسياسية وثقافية [33].
ويمكن القول هنا أن الاستشراق بدأت إرهاصاته في القرون الوسطى، وتحديدا حين شكل الإسلام تحديا عقديا وعسكريا للمسيحية. في زمن كانت الكنيسة تجمع فيه بين السلطتين الدينية والدنيوية، وتسيطر فيه على العلم والمعرفة. فأصبح من الضرورة معرفة هذا الدين الجديد ومعرفة ماهيته، فكانت هذه المعرفة مدفوعة بالضرورة. إذ كان صعود الإسلام كقوة عالمية، سياسية عسكرية ثقافية والأهم دينية، يشكل تهديدا على الغرب المسيحي. “فلقد كان الإسلام الوسيط يفيض ازدهارا وثراء في المجالات كلّها، بينما كان الغرب في الحقب نفسها لا يملك غير ثقافة آباء الكنيسة، والشعراء الكلاسيكيين ومن بعدهم، وثقافة مدرسي اللاتين” [34].
أما عن دوافع الاستشراق، فقد تعددت وتباينت آراء الباحثين حولها. ومنها الدافع الديني أو التبشيري، والدافع الاستعماري، والدافع العلمي، وغيرها من الدوافع، ويمكن ربط الدوافع والأهداف بسهولة بالغة. ومحاولة إعادتها جملة وتفصيلا، لا يشكل إلا إعادة سرد لما جاء في الدراسات السابقة عن الاستشراق. ولكن بحكم أن الاستشراق هو معرفة، تنبع من الاختلاف وتتمحور حول الأخر المجهول. فمحاولة التعرف إلى هذا الأخر، والانفتاح على فكره وثقافته، هو دافع للبحث عنه واستكشافه. وهذه الفكرة بحد ذاتها، تنبع من رغبة الإنسان في البحث والكشف عما هو جديد ومختلف.
كما أن الاختلاف هو أساس وسنة في الخلق. ويبرز هذا في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا…﴾[35]، فالتعارف والتواصل بين الأمم والشعوب ضرورة تنبع من هذا الاختلاف.
ويمكن القول أيضا أن الاستشراق هو نتاج لفعل معرفي يخضع لمحددات وأطر خارجية تؤثر بالذات العارفة وتساهم في تشكيلها، فهذه المعرفة لم تكن بمعزل عن ما هو سائد من أفكار وميول ونزعات، تأثر فيها الباحثون أفرادا أو حتى من خلال المؤسسات التي تقوم على إنتاج هذه المعرفة. فالمستشرق ينتمي إلى التراث الأدبي والفكري والثقافي العام السائد باعتباره إطارا لا يستطيع الخروج عنه، وهو ما يسمى بالبنوة [36]، فيبقى ما ينتجه المستشرق وليدا داخل هذا الإطار بشكل حتميّ.
وأخيرًا لا يمكن أن نتناسى أن الاستشراق وليد للحضارة الأوروبية. فالمستشرق دوّن وجهة نظره للشرق من خلال رؤيته الخاصة للحضارة والتاريخ، والسياسة والدين والمجتمع. وهذه الرؤية مرتبطة كليا بتطور الفكر التاريخي والفلسفي والديني للغرب، وتطور مفاهيم البحث العلمي ومناهجه. فلا يمكن دراسة منتجات الدراسات الاستشراقية بمعزل عن هذه التطورات.
لقد عمد المستشرقون إلى خدمة التراث الإسلامي بكل ما يحتويه، وتناولوه جمعا وتحقيقا ودراسة، وقاموا بتصنيفه وترجمته ونشره. و أفاد التراث من المستشرقين، من خلال تطبيق مناهجهم المختلفة عليه. وبذلك خدم الاستشراق التراث العربي، بشكل لا يمكن الاستغناء عنه، فكان هذا من أهم النتائج الإيجابية لحركة الاستشراق. فقد أنقذوا كنوزا من الضياع، فبقيت بفضلهم ومجهودهم محفوظة وإن كانت في غير أرضها [37].
ويضاف إلى ذلك تحقيقهم لمئات المخطوطات بمختلف اللغات العربية، والسريانية، والفارسية، والتركية، وغيرها. ما كانت لتكون متوافرة بين يدي الباحثين، لولا عناية المستشرقين بها. أما في مجال الدراسات الاستشراقية فعلى الرغم من أهميتها لأي دارس للتراث العربي الإسلامي في شتى مجالاته. وحجم المجهود الذي بذل في إنجازها، ومدى تأثيرها على الباحث العربي خاصة في ما يتعلق بالجانب المنهجي. إلا أنها ليست إيجابية بشكل كامل، فهي تحوي سلبيات أيضا.
ولا يمكن إنكار أن هذه الدراسات كانت تستثمر في بثّ إيديولوجيات معينة، كانت تفيد الحركة الاستعمارية على سبيل المثال. وتؤدي إلى التحكم والتوجيه ثقافيا، فليس غريبا بروز مسألة القومية في الأواسط العربية من خلال تفسير التاريخ قوميًا مثلًا. والاستناد عليه في توجيه الحركة الفكرية، بشكل عام في المنطقة. فكان الغرض الأول من التوجه الإمبريالي، عن طريق تلك الحركة نحو السيطرة على الثقافة العربية. بمعنى التحكم باتجاهاتها الحديثة، لتكون دراسة تراثها الفكري أحد وسائل هذا التحكم، وأحد أشكاله [38].
ومع أن الأفكار التي جاء بها المستشرقون كانت خاضعة للنقاش وللجدل، وللقبول والرفض. إلا أن الباحثين [39] العرب لم ينكروا فضل المستشرقين، خاصة في مجال تحقيق المخطوطات وطباعتها ونشرها وحتى بحثها. فقد شهد القرن التاسع عشر تكريسا للبحث عن الوثائق، والمواد العربية على نحو تدريجي. حتى أصبح طلب المراجع والمخطوطات أشبه ما يكون بـ “الحمى أو الجنون بين المستشرقين” [40].
ويعد التاريخ من أهم المجالات التي احتلت حيزا في الدراسات الاستشراقية، وذلك لاحتوائه على مظاهر الوحدة والتنوع. ويؤكد على ترابط واستمرار الأمة عبر العصور [41]، بقيمها وانجازاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية والفكرية. أما الانكباب على دراسة الإسلام كتاريخ ودين وحضارة، ذلك لكونه واحدا من أعظم أحداث التاريخ العربي تحديدا والشرقي بالعموم.
ويرى أحد الباحثين المسلمين أن المستشرقين هبة من الله للإسلام وتاريخه فيقول: “يشاء الله أن يهب الإسلام من الأوروبيين من يؤرخون له كسياسة فيجيدون التأريخ، ومن يبحثون فيه كدين وحياة روحية فيتعمقون بهذا البحث ويبلغون الذروة أو يكادون، ومنهم من يقبلون على الجانب الفيلولوجي منه فيظفرون بنتائج على جانب من الخطر كبير، فكان على رأس هؤلاء الأخيرين ثيودور نولدكه، وعلى رأس أولئك الأولين فلهاوزن، وكان سيد الباحثين فيه من الناحية الدينية خاصة والروحية عامة أغناتس جولدتسيهر” [42].
وبذلك أتاح المستشرقون المجال لرؤية تاريخية من زوايا مختلفة فرضت على المتلقي العربي تحديات استفزازية أغنت نظرته نحو التاريخ والثقافة. فكانت الدراسات التاريخية حول الشرق العربي الإسلامي، استجابة لدافع معرفة وإدراك الذات من خلال المقارنات والمقاربات مع الأخر [43]. والكتابات التاريخية الاستشراقية بأشكالها وكثافتها المختلفة كانت تعكس شيئا من أجواء وقتها الأصلي. فلا يمكن النظر إليها بتجرد وبمعزل عن بدايتها التاريخية، ولا يمكن عزلها عن الإمبريالية والمطامع الاستعمارية، والتوجهات الفكرية المرتبطة بها. ويمكن القول أن اتجاهات التأريخ ودراساته كانت تسهم إسهاما هاما في المجال الفكري والثقافي والسياسي والاجتماعي.
ويشير محمد أركون بأن الاستشراق ملأ فراغا كبيرا فيما يخص دراسة الإسلام. فقد طبق المنهجية الفيلولوجية [أي اللغوية] والتاريخية على موضوعات كانت محرمةعلى البحث من قبل أرثوذوكسية صارمة وجامدة. فالمستشرق الألماني نولدكه هو الذي طبق المنهجية التاريخية لأول مرة على المصحف. وأما غولدزيهر فقد طبق نفس المنهجية على كتب الحديث النبوي. وقل الأمر نفسه عن المستشرق جوزيف شاخت الذي درس الشروط [أو الظروف] الاجتماعية والسياسية التي أحاطت ببلورة الشريعة أو الفقه [44].
[1] سعيد، إدوارد، الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة محمد عناني، ط1، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006م، ص43 سيشار إليه فيما بعد سعيد، الاستشراق.
[2] رضا، أحمد، معجم متن اللغة، المجلد الثالث، [د.ط]، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1959م، ص310، وسيشار إليه فيما بعد: رضا، متن اللغة.
[3] المرجع السابق.
[4] عمر، أحمد مختار، معجم اللغة العربية المعاصرة، ط1، 4ج، عالم الكتب، [د.م]، 2008م، ج2، ص1192، وسيشار إليه فيما بعد: عمر، معجم اللغة.
[5] رضا، متن اللغة، ص310.
[6] سمايلوفتش، أحمد، فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر، ط1، دار الفكر العربي، القاهرة، 1418هـ/1998م، ص25، وسيشار إليه فيما بعد: سمايلوفتش، فلسفة الاستشراق، زماني، محمد حسن، الاستشراق والدراسات الإسلامية لدى الغربيين، ترجمة محمد نور الدين عبد المنعم، ط1، المركز القومي للترجمة، 2010م، وسيشار إليه فيما بعد: زماني، الاستشراق ، ص41.
[7] حميّش، بنسالم، العرب والإسلام في مرايا الاستشراق، ط1، دار الشروق، القاهرة، 2011م، ص17، وسيشار إليه فيما بعد، حميش، العرب والإسلام.
[8] الدعمي، محمد، الاستشراق: الاستجابة الثقافية الغربية للتاريخ العربي الإسلامي، ط2، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008م، ص23، وسيشار إليه فيما بعد، ادعمي، الاستشراق.
[9] زماني، الاستشراق، ص41.
[10] شيدر، هانز هينوش، روح الحضارة، ترجمة عبد الرحمن بدوي، [د.ط]، دار العلم للملايين، بيروت، 1991م، ص7.
[11] مستشرق ألماني، من أشهر أعماله ترجمة القرآن إلى اللغة الألمانية مع شرح فيلولوجي، راجع: بدوي، عبد الرحمن، موسوعة المستشرقين، ط3، دار العلم للملايين، بيروت، 1993م، ص62، وسيشار إليه فيما بعد: بدوي، الموسوعة.
[12] بارت، رودي، الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، ترجمة مصطفى ماهر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2011م، ص17، وسيشار إليه فيما بعد: بارت، الدراسات العربية.
[13] يقصد بـ “إلينا” الغرب والحضارة الغربية، بارت، الدراسات العربية، ص17.
[14] بارت، الدراسات العربية، ص18.
[15] سعيد، الاستشراق ، ص43.
[16] المرجع السابق، ص43.
[17]المرجع السابق، ص43/44.
[18] المرجع السابق، ص46.
[19] المرجع السابق ، ص44.
[20] المرجع السابق، ص45.
[21] المرجع السابق، ص45.
[22] لويس، بيرنارد، مسألة الاستشراق، ضمن كتاب الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، ترجمة: هاشم صالح، ط2، دار الساقي بيروت، 2000، ص161.
[23] سالم، ساسي الحاج، نقد الخطاب الاستشراقي [الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية]، 2ج، ط1، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2002، ج1، ص22، وسيشار إليه فيما بعد: سالم، نقد الخطاب.
[24] المرجع السابق، ص22.
[25] هو مفكر سوري، ولد عام 1934م، درس في الولايات المتحدة الامريكية ومارس التدربس فيها، وفي بلاده وفي الجامعة الأمريكية في لبنان، أهم كتبه: نقد الفكر الديني، وذهنية التحريم، راجع: ولد أباه، أعلام الفكر العربي، ص62.
[26] Al-azm, sadiq jalal, orientalism and orientalism in reverse, [1981] Khamsin No.8: 5-26. Reprinted in Alexander Lyon Macfie, Ed. Orientalism: A Reader New York: New York University Press, 2000. 217-238،p 1.
[27] فوزي، فاروق عمر، الاستشراق والتاريخ الإسلامي [القرون الإسلامية الأولى ]، ط1، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، 1998م، ص30، وسيشار إليه فيما بعد: فوزي، الاستشراق والتاريخ.
[28] سعيد، الاستشراق، ص110.
[29] زماني، الاستشراق، ص79.
[30] بارت، الدراسات العربية، ص14، سوذرن، ريتشارد، صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى، ترجمة رضوان السيد، ط2، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2006م، ص80، وسيشار إليه فيما بعد: سوذرن، صورة الإسلام.
[31] السيد، رضوان، المستشرقون الألمان النشوء والتأثير والمصائر، ط2، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2016م، ص15.
[32] مفكر سوري، ولد عام 1934م، درس الفلسفة في ألمانيا، أستاذ في جامعة دمشق، وكاتب غزير الإنتاج، من كتبه: من التراث إالى الثورة، من يهوه إلى الله، راجع: ولد أباه، أعلام الفكر، ص80.
[33] تيزيني، طيب، على طريق الوضوح المنهجي كتابات في الفلسفة والفكر العربي، ط1، دار الفارابي، بيروت، 1989م، ص160.
[34] سوذرن، صورة الإسلام، ص٤٤.
[35] القرآن الكريم، سورة الحجرات، آية 13.
[36] البُنُوَّة [filiation] تعني الانتماء في خصائص معينة للتراث الأدبي والفكري بداية، وهو انتماء حتمي كانتماء الأبناء للآباء، راجع سعيد، الاستشراق، ص24.
[37] مروة، النزعات المادية، ج1، ص118.
[38] المرجع السابق، ج1، ص111-112.
[39] راجع مثلا: الدعمي، الاستشراق، ابن نبي، انتاج المستشرقين، ص42، مروة، النزعات المادية، ص108.
[40] الدعمي، الاستشراق، ص54.
[41] فوزي، الاستشراق والتاريخ ، ص9.
[42] بدوي، موسوعة المستشرقين، ص199.
[43] الدعمي، الاستشراق، ص56.
[44] New tab (elaph.com)
[*] هذه المقالة جزء من بحث أوسع للباحثة تحت عنوان “مدخل في الاستشراق”، راجع: مجلة المنارة، م1، ع1، 20022م.
عقلك، وهو عبارة عن شبكة معقدة من الأفكار والمعتقدات، ولكنه يعمل حاليًا ببرنامج قديم. لقد…
تم اكتشاف خزان ضخم من الهيدروجين، والذي قد يشكل مصدراً محتملاً للطاقة النظيفة، تحت سطح…
لقد تم اكتشاف تمثال نصفي لكليوباترا في مدينة تابوزيريس ماجنا المصرية القديمة، مما أثار جدلاً…
عثر مقاتلون تابعون للمعارضة في سوريا على مخزونات ضخمة من مخدر الكبتاجون في مستودع بدمشق.…
توصل باحثون إلى اكتشاف رائد يمكن أن يحدث ثورة في عالم التكنولوجيا القابلة للارتداء. لقد…
مع تصاعد التوترات حول نهر النيل، الذي يشكل شريان حياة بالغ الأهمية لملايين البشر في…