كثيرة هي المصطلحات في عالم الطب، لكن بعضها يملك مقدارًا من الغرابة التي تدعوك للوقوف عنده، والتساؤل عن المعنى المقصود منه. الأدوية اليتيمة، هي إحدى هذه المصطلحات، فهي يتيمةُ لم تجد من يتبناها ويرعاها، لذلك من الطبيعي ألا تسمع بها من قبل، ولا أظن أنك تعرف الكثير عنها! ولكنك محظوظ عزيزي القارئ، سأجيب في هذا المقال على تساؤلاتك، عن الأدوية اليتيمة والأمراض النادرة، وعن التحديات الكبيرة التي تعترضها والضرورات الصحية والأخلاقية لتطويرها. أتمنى لك قراءة ممتعة.
محتويات المقال :
سامي، طبيبٌ محنكٌ ذو خبرة، أتاه مريض يعاني عدة أعراض. بعد إجراء الفحص السريري وأخذ التاريخ المرضي وقراءة النتائج المخبرية، أكد الطبيب سامي للمريضِ أنه يعاني من مرض السكري النمط الثاني، ولكن قال للمريض مطمئناً إياه: لا تقلق، ثمَّةَ الكثير من الحلول الدوائية والغذائية، نحن نعرف الكثير عن هذا المرض، وهناك عشرات الملايين من المرضى المشخصين سنوياً، والكثير من المؤسسات الطبية حول العالم تعمل على مدار الساعة، لتطوير علاجات جديدة والتحسين من مستوى حياة المريض.
لكن ماذا لو كان هذا المريض يعاني من اضطراب وراثي نادر؟ هل سيستطيع الطبيب تشخيص المرض بهذه السرعة والبساطة؟ هل سيكون بهذا التفاؤل؟ هل سيحصل المريض على العلاج الذي يستحق؟ بالتأكيد لا، مع الأسف.
أريد الوصول مما سبق إلى تعريف الأمراض النادرة Rare Diseases، فهي مجموعة من الحالات التي تصيب عددًا صغيرًا جدًا من الناس. تختلف التعريفات، على الرغم من أن المرض بشكل عام يعتبر نادراً إذا كان يصيب أقل من 1-5 أفراد لكل 10,000 فرد من عامة السكان. بحسب منظمة الأمراض النادرة الأوروبية، ثمة هنالك أكثر من 6000 مرض نادر حول العالم، 80% منها وراثية المنشأ، مثل البورفيريا وبعض الشذوذات الصبغية والأورام السرطانية النادرة. وغالبًا ما تكون أمراض مزمنة ومهددة للحياة. قرابة 5-7% من سكان العالم يعانون من مرض نادر.
تأخذ عملية اكتشاف الدواء وتطويره، بدءًا من دراسة فيزيولوجيا المرض وتحديد الجزيئة الهدف، وصولًا لمرحلة الموافقة عليه وتسويقه قرابة 10-15 سنة، ناهيك عن الكلفة المرتفعة والتي لا تقل عن مئات ملايين الدولارات (قد تصل إلى 1.9 مليار دولار)، وقد لا تُكلل هذه الرحلة الطويلة والمكلفة بالنجاح، فالكثير من المركبات الدوائية تفشل في تحقيق التأثير العلاجي المطلوب.
بشكل عام، لا يتم تطوير الأدوية إلا بعد حساب الجدوى الاقتصادية لتطويره وتسويقه، وما إذا كان سيعود بالنفع على المستثمرين. فعملية تطوير دواءٍ مخصصٍ لعلاج مرضٍ نادرٍ، مصاب به شريحة صغيرة من الناس قد لا تغطي تكاليف تطويره، وبالتالي فهو استثمارٌ خاسرٌ للشركات الدوائية. فالأولوية لديهم هي تطوير أدوية للأمراض التي تصيب عددًا كبيرًا من الناس. إذًا، هي أدويةٌ يتيمةٌ لعدم وجود من يتبناها ويشرف على تطويرها.
نستطيع الآن وضع تعريفٍ لمصطلح الأدوية اليتيمة Orphan Drugs، على أنها المنتجات التي تهدف لعلاج أو تشخيص المرضى المصابين بالأمراض النادرة، والتي لا تعمل الشركات الدوائية على تطويرها لأسباب تجارية، رغم تلبيتها لمتطلبات الصحة العامة.
يجدر الإشارة أيضًا إلى أن الدواء يعتبر يتيمًا إذا كان يعالج أحد الأمراض المدارية المهملة The Neglected Tropical Diseases، وهي الأمراض التي تتفشى في المناطق الفقيرة والمنسية، إفريقيا وبعض دول جنوب آسيا. مثل هذه الأمراض: حمى الضنك ودودة غينيا ومرض شاغاس، وهي أمراض خطيرة ومهددة للحياة، لكن الشركات الدوائية لا تلتفت لها ببساطة لأن السوق المستهدف فقير وغير قادر على شراء العلاج. ويُترك هؤلاء المرضى للمعاناة والموت جوعًا ومرضًا، ويبقى حق التداوي والعلاج حكرًا على الأغنياء.
تندرج الأدوية المسحوبة من السوق لوجود بعض المخاطر فيها تحت مسمى الأدوية اليتيمة، حيث يحرم منها بعض المرضى الذين يحتاجونها للعلاج. كما أن الأدوية غير المطورة بسبب مشكلات في براءات الاختراع، تعتبر أيضًا أدويةً يتيمة.
من الناحية الأخلاقية والإنسانية، التداوي حقٌ لكل المرضى، ولا بد من البحث عن العلاج لكل مرض، وعلينا ألا ننظر لمثل هذه الأمور من منظور مادي مطلق، فمن المعيب التفكير بالربح والخسارة على حساب معاناة الناس وألمهم.
من أجل حل هذه المعضلة الأخلاقية والتي تعتبر أيضًا ضرورة صحية، انطلقت العديد من المبادرات الخيرية على المستوى الشعبي لدعم الأدوية اليتيمة، وتمويل مراكز الأبحاث بالكلفة المطلوبة. ولكن بقيت هذه المبادرات ضعيفة وغير قادرة على تحمل الأعباء المالية المترتبة على تطوير دواء يتيم.
لذلك، ظهرت أول مبادرة رسمية حكومية في الولايات المتحدة، وهي قانون الدواء اليتيم Orphan Drug Law، وذلك عام 1983. ينص هذا القانون على تقديم حوافز مالية وإعفاءات ضريبية للشركات الدوائية القائمة على تطوير الأدوية اليتيمة، فالهدف من هذا القانون هو تشجيع الشركات على إنتاج هذه الأدوية، وعدم إهمالها لاعتبارات مادية. ظهرت لاحقًا قوانين مشابهة في اليابان وأستراليا عام 1985 و1997، تبعتها أوروبا عام 2000 من خلال تطبيق سياسة مشتركة لجميع دول الاتحاد الأوروبي بشأن الأدوية اليتيمة.
حتى عام 2014، بلغ عدد الأدوية اليتيمة المسوقة عالميًا 231، أما الخاضعة لتجارب الطور السريري 600 دواء، في حين أن الولايات المتحدة تهيمن على قطاع الأدوية اليتيمة وتعتبر السوق الرئيسي لها بمبيعاتٍ تجاوزت 40 مليار دولار، و350 دواء في الطور السريري.
مؤخرًا، هنالك اهتمام عالمي متزايد إزاء الأدوية اليتيمة وسن التشريعات الناظمة والمشجعة على تطويرها وتبنيها، وذلك في ظل مناشدات المنظمات الصحية الدولية والمحلية، وارتفاع الأصوات المنددة بجشع الشركات الدوائية والمستثمرين، والحاجة الملحة لتخفيف معاناة المرضى وآلامهم.
أما على المستوى العربي، كما نعم جميعًا، القطاع الصحي في بلدان العالم الثالث بشكل عام ضعيف ومتهالك، ومعتمد على استيراد الأدوية والمعدات الطبية، وليس له القدرة على تصنيعها. أغلب الصناعات الدوائية في المنطقة العربية تقتصر على استيراد المواد الفعالة والسواغات، وتحضير الشكل الصيدلاني فقط، أو مجرد التعبئة والتوزيع. أي أننا لا نملك إمكانيات البحث والتطوير والتصنيع الدوائي من الصفر، فهذا الأمر بحاجة إلى بنية تحتية متطورة وميزانيات ضخمة، واهتمام حكومي خاص. بالتالي، نحن مُستهلِكون فقط، وليس لنا في الوقت الحاضر إلا انتظار تطوير هذه الأدوية والعلاجات من قبل مراكز أبحاث الدول المتقدمة. نتمنى أن يتغير الحال في المستقبل القريب، ونؤسس لقيام صناع دوائية منافسة ومتطورة.
المصادر
Orphanet Website for rare diseases and orphan drugs. هنا
The neglected tropical diseases: a rags-to-riches story. هنا
Global Orphan Drug Market to Reach US$ 120 Billion by 2018. هنا
EURORDIS-Rare Diseases Europe Website. هنا
J. K. Aronson 2006. Rare diseases and orphan drugs. British Journal of Clinical Pharmacology. هنا
عندما يتعلق الأمر بحماية بشرتنا من التأثيرات القاسية لأشعة الشمس، فإن استخدام واقي الشمس أمر…
اكتشف فريق من علماء الآثار 13 مومياء قديمة. وتتميز هذه المومياوات بألسنة وأظافر ذهبية،وتم العثور…
ركز العلماء على الخرسانة الرومانية القديمة كمصدر غير متوقع للإلهام في سعيهم لإنشاء منازل صالحة…
من المعروف أن الجاذبية الصغرى تغير العضلات والعظام وجهاز المناعة والإدراك، ولكن لا يُعرف سوى…
الويب 3.0، الذي يشار إليه غالبًا باسم "الويب اللامركزي"، هو الإصدار التالي للإنترنت. وهو يقوم…
لطالما فتنت المستعرات العظمى علماء الفلك بانفجاراتها القوية التي تضيء الكون. ولكن ما الذي يسبب…