Ad

في منطقة شاسعة من شمال غرب المملكة العربية السعودية، توصل فريق من الباحثين الأستراليين إلى اكتشاف أسلوب حياة سكان شمال غرب السعودية في العصر الحجري الحديث. لعدة قرون، كانت الفكرة السائدة هي أن الناس الذين عاشوا في هذه المنطقة كانوا مجموعات صغيرة تكافح في حالة تنقل مستمر، بحثًا عن الموارد الشحيحة في المناظر الطبيعية الصحراوية القاسية. ومع ذلك، فإن النتائج الأخيرة ترسم صورة مختلفة جذريًا.

قام المشروع، بقيادة باحثين من جامعة أستراليا الغربية وجامعة سيدني، بمسح 431 دائرة حجرية قائمة في منطقتي العلا وخيبر، مع فحص 52 هيكلًا بالتفصيل و11 حفرة. وكانت النتائج مذهلة، حيث قدموا لمحة عن الحياة اليومية للعرب القدماء ونظامهم الغذائي وأدواتهم وحتى مجوهراتهم.

النجاة من الطبيعة القاسية في العصر الحجري الحديث

لنقل أنك تعيش في منطقة حيث تضرب الشمس الحارقة بلا هوادة، وتمتد الطبيعة القاحلة إلى ما لا نهاية. كان هذا هو واقع سكان شمال غرب المملكة العربية السعودية خلال العصر الحجري الحديث، منذ حوالي 6500 إلى 8000 سنة. وجعلت البيئة القاسية البقاء على قيد الحياة صراعًا يوميًا، مع محدودية في الوصول إلى الموارد مثل الماء والغذاء.

في مثل هذه البيئة الصعبة، من المدهش أن هؤلاء الأشخاص القدماء لم يتمكنوا من النجاة فحسب، بل تمكنوا أيضًا من الازدهار. وتكمن الإجابة في تكيفهم المبتكر مع البيئة. على سبيل المثال، طور العرب القدماء أنظمة معقدة لإدارة الموارد المائية، والتي ربما كانت حاسمة في هذه المنطقة القاحلة. كما تعلموا أيضًا كيفية حصاد الطعام وتخزينه، مما سمح لهم بإعالة أنفسهم في أوقات الندرة.

كما اتسمت المناظر الطبيعية في العصر الحجري الحديث بتغير مناخي كبير، والذي كان من شأنه ترك أثر عميق على توافر الموارد. ومع تغير البيئة، كان على سكان شمال غرب المملكة العربية السعودية التكيف بسرعة من أجل البقاء. وهذه القدرة على التكيف هي شهادة على مرونتهم وقدرتهم على الاستجابة للظروف المتغيرة.

سكان شمال غرب السعودية في العصر الحجري الحديث

كشف سر الدوائر الحجرية الدائمة

أدى اكتشاف المباني الأثرية، المعروفة باسم الدوائر الحجرية القائمة (standing stone circles)، في شمال غرب السعودية، إلى إعادة كتابة تاريخ الأشخاص الذين عاشوا هناك. هذه الآثار، الموجودة في “حرة عويرض” البركانية، هي أكثر من مجرد منازل، فهي شهادة على التعقيد والطرق الإستراتيجية للعرب القدماء.

وتتكون كل دائرة من صفين متحدي المركز من الحجارة الكبيرة، يصل وزن كل منهما إلى طن، ويتم وضعهما طرفًا لطرف في دائرة. كانت المسافة بين الصفوف بمثابة أساس للأعمدة الخشبية، ودعم السقف المصنوع من جلود الحيوانات. واستخدمت الهياكل، التي يتراوح عرضها من 4 إلى 8 أمتار، في أنشطة مختلفة، بما في ذلك صنع الأدوات والطهي وتناول الطعام.

كشفت أعمال التنقيب في 11 موقعًا عن بقايا الحياة اليومية، بما في ذلك عظام الحيوانات وأحجار الرحى والزخارف. وكان الأشخاص الذين بنوا هذه الهياكل واسعي الحيلة وقادرين على التكيف، كما يتضح من قدرتهم على الاستجابة للتغيرات البيئية من خلال استكمال نظامهم الغذائي بالأنواع البرية. كما استوردوا المواد من القريب والبعيد، وتاجروا مع جيرانهم في بلاد الشام.

لمحة عن الحياة اليومية

يوفر اكتشاف القطع الأثرية المختلفة، بما في ذلك بقايا الطعام والأدوات والمجوهرات، نافذة فريدة على الحياة اليومية لهؤلاء العرب القدماء. حيث يشير تحليل عظام الحيوانات الموجودة داخل الدوائر الحجرية القائمة إلى أن هؤلاء الأشخاص كانوا يستهلكون في المقام الأول الأنواع المستأنسة مثل الماعز والأغنام والماشية. ومع ذلك، فقد استكملوا نظامهم الغذائي أيضًا بالأنواع البرية مثل الغزلان والطيور، مما أظهر قدرتهم على التكيف مع البيئة المتغيرة. وربما كانت هذه المرونة حاسمة في الاستجابة للتحديات التي يفرضها تغير المناخ، والتي من شأنها أن تؤثر على توافر المياه والغطاء النباتي.

بالإضافة إلى نظامهم الغذائي، ترك العرب القدماء وراءهم أيضًا ثروة من الأدوات التي توفر نظرة ثاقبة لأنشطتهم اليومية. لقد عثرنا على أدلة على صناعة الأدوات الحجرية والطهي وتناول الطعام، بالإضافة إلى الأدوات المفقودة والمكسورة المستخدمة في معالجة جلود الحيوانات. إن وجود أحجار الرحى، التي تتآكل بسبب طحن الأعشاب البرية والنباتات المحلية، يسلط الضوء أيضًا على براعتهم في استغلال الموارد المتاحة.

ويكشف اكتشاف المجوهرات، بما في ذلك الأساور والمعلقات المنحوتة والمصقولة من الأحجار الغريبة، عن الجانب الشخصي لهؤلاء الأشخاص القدماء. كما عثرنا على بقايا زخارف وخرزات معلقة مصنوعة من أصداف تم جلبها من البحر الأحمر على بعد حوالي 120 كيلومترًا.

الروابط المفاجئة بين الجزيرة العربية القديمة وبلاد الشام

أظهر اكتشاف الدوائر الحجرية أيضًا عن شبكة معقدة من التبادل التجاري والثقافي التي امتدت عبر المنطقة. تشير النتائج التي توصل الباحثون إليها إلى أن هذه المجتمعات القديمة كانت مرتبطة بجيرانها في بلاد الشام. وبلاد الشام آنذاك هي المنطقة التي تضم الأردن وفلسطين وسوريا الحديثة، من بين مناطق أخرى.

تشير الأدلة الأثرية إلى مستوى مدهش من التفاعل بين هذه الثقافات القديمة. تحمل الأدوات والتقنيات الحجرية التي استخدمها العرب القدماء تشابهًا مذهلاً مع تلك الموجودة في المواقع السابقة عبر الأردن، مما يشير إلى أنهم إما تاجروا بها أو تعلموا كيفية صنعها من أقصى الشمال. علاوة على ذلك، فإن وجود الماعز والأغنام المستأنسة في المنطقة، والتي لم تكن موطنًا للمنطقة، يعني أنه تم الحصول عليها من مناطق أبعد.

ولم يقتصر تبادل السلع والأفكار على العناصر الوظيفية مثل الأدوات والماشية. لقد وجدنا أدلة على استخدام الحجارة والأصداف الغريبة في صنع الحلي الشخصية، مثل الخرز والمعلقات. ويعد استخدام الحجر الأحمر لإنشاء صبغة للأعمال الفنية الصخرية أو الرسم على الجسد بمثابة علامة على الروابط الثقافية التي كانت موجودة بين هذه المجتمعات القديمة.

وتشكل شبكات التبادل التجاري والثقافي هذه تذكيراً قوياً بأن المجتمعات القديمة لم تكن كيانات معزولة، بل كانت جزءاً من عالم أكبر مترابط. إن اكتشاف هذه الروابط يلقي الضوء على حياة العرب القدماء، ويوفر أيضًا منظورًا جديدًا لتاريخ المنطقة ككل. كما يسلط الضوء على أهمية النظر في السياق الثقافي والاقتصادي الأوسع الذي ازدهرت فيه هذه المجتمعات.

المصادر:

A struggling people languishing across barren lands? No, evidence shows life in ancient Saudi Arabia was complex and thriving / the conversation

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


آثار تاريخ

User Avatar


عدد مقالات الكاتب : 360
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *