محتويات المقال :
إن الاجوبة التي قدمها فلاسفة ملطية لا تمثل أهمية فلسفية بقدر السؤال الذي اخترقوا من خلاله تخوم التصور القبفلسفي. إن الخطوة الملطية بإتجاه الفلسفة كانت الأكثر جرأة ذلك لأنها نزعت الصفة المقدسة عن الكون. كأن العالم قد وضع كل ثروته الروحية والأخلاقية على هذا الرهان البدائي، فلم يبقى من شيء إلا وصار نحو/من الفلسفة. إن فقدان مصادر تلك الفلسفة الأصلية تحول بيننا وبين حقيقة ما كتبوه -كأجوبة- بيد أن السؤال الملطي الأول يبرز بقوة ويعلن عن ذلك الحضور الجليل. يقول الفيلسوف الفرنسي جان بيار فرنان عن تلك الحقبة: “يعود تاريخ أفول المعتقدات الخرافية إلى اليوم الذي وضع فيه الحكماء الأوائل النظام الإنساني موضع النقاش وسعوا إلى تعريفه في ذاته، وإلى ترجمته في صيغ تكون في متناول الفكر”(1). في هذا المقال سوف نسلط الضوء على أناكسيمينس وكيف قام بإعادة تدوير عجلة الأصول.
المعلومات المتوفرة حول أناكسيمينس قليلة جدًا، كان قد ولد في مدينة ملطية (التركية حاليًا) عام 585ق.م. فهو إبن يورستراتوس الملطي (Eurystratos of Miletus) ويقال بأنه قد تلمذ على يد أناكسيماندر وكذلك بارمنيدس وثمة من يقول بأنه قد تأثر بفيثاغورس أيضا. عاش تحت الحكم الفارسي لفترة وشاهد على النزاعات التي كانت موجودة بين أيونيا والسلطة اليونانية.
وفقًا لكاتب سير فلاسفة اليونان، ديوجين لايرتيوس، الذي عاش في القرن الثاني والثالث قبل الميلاد، إن أناكسيمينس كان قد كتب آراءه الفلسفية في كتاب كان موجودًا حتى في العصر الهلنستي، إلا أن هذا الكتاب لم ينجو منه شيئًا. (2)
إن الهواء في الأدبيات الإغريقية المبكرة، لم يكن يعتبر كعنصر طبيعي وحسب، بل روح العالم. لذا نجد بأن أناكسيمينس يتعامل مع الهواء على أساس أن كل ما هو موجود كان في البداية هواءا، وصار الهواء نارًا وحجارة وناسًا. ويرجع اختلاف ماهية الأشياء إلى الاختلاف الكمي في الهواء. (3)
وفقًا لأناكسيمينس، يختلف الهواء في جوهره عن أي شيء آخر حسب ندرته أو كثافته. فالهواء في أضعف حالاته يتحول إلى نار وعندما يتكثف يصير ريحًا، فغيمة وإن تكثف أكثر تحول إلى ماء فتراب ومن ثم حجارة. بإستخادم عمليتي التخلخل والتكثيف يفسر صيرورة الوجود المادي. التخلخل في الهواء يؤدي إلى الأشياء الأكثر خفة في حين أن عملية التكثيف تخلق ما هو أكثر سماكة.(3)
ما يعطي اعتبارًا فلسفيًا لآراء أناكسمينس هو أنه لم يستثني موجودًا كحالة خاصة في الوجود. ففي التصور الخرافي كان الإنسان يمثل وضعًا مميزًا في عملية الخلق. بل حتى الطبقات الإجتماعية لم تتمتع بنفس المزايا بحجة أنه ثمة فروق جوهرية بين طبقة وأخرى. الفلسفة الملطية رغم طابعها المادي المحض أثرت في الجوانب الإجتماعية أيضًا، فكون كل موجود مادة وحسب وكل إنسان يحمل الجوهر ذاته فلا مبرر لوجود طبقات تعطي رتب وجودية لطبقة دون غيرها ولفرد دون سواه.
إن صيرورة أناكسيماندر تحدث في زمن لانهائي، مكان بلا حد وماهية غير متعينة. إذ أن الأبيرون يفتقر إلى كل صفة من شأنها أن تعينه، سوى صفة الحركة. أما الصيرورة التي يفترضها أناكسيمينس تحدث داخل الهواء نفسه، وتعطيه الهوية في معادلة كمية. والاختلاف الآخر يكون على المستوى الأنطولوجي. إن الوجود حسب أناكسيماندر ضربة من العصيان والخروج عن الكيان السرمدي، الأبيرون، لذا فأن الوجود يحمل معنى سلبيًا في نظريته. في حين أن الوجود عند أناكسيمينس يحمل معنى إيجابيًا، الحضور الأوحد والأكثر إمكانًا ومعقولية.
إقرأ أيضا الفيلسوف أناكسيماندر والأبيرون
مع أن أناكسيمينس سعى إلى اكتشاف السبب الأول للوجود وتنوع الظواهر والموجودات دون الاستعانة بأي خرافة أو إله. بيد أنه لم ينكر وجود الآلهة، إلا أن الآلهة هي بدورها قد وجدت من الهواء جنب إلى جنب باقي الموجودات. لكن إن صح هذا الادعاء فلا نعرف ما هو دور الآلهة تحديدًا طالما أن الوجود يصير وفقًا لعمليتين ماديتين، التخلخل والتكثيف.(4)
في كتابه مدينة الله، يبين القديس أغستينيوس أن أناكسيمينس لم ينكر وجود الله ولم يصمت حيال هذا الأمر. لكنه يؤكد بأن الآلهة قد ولدت هي نفسها من الهواء ولا يذكر أغستينيوس وظيفة الإله في عملية الخلق الأناكسيمنسية.(4)
يشير شيشرون (106-43 ق.م) إلى أن “أناكسيمينس قال بأن الهواء هو الإله وأنه يأتي إلى الوجود وهو لا يقاس ولانهائي ودائم الحركة”. (4)
يرى البعض بأن تخبط اناكسيمانس الفلسفي كان بمثابة نكسة، خطوة إلى الوراء مقارنة بما قام به معلمه أناكسيماندر. فبعد أن استبعد الأخير الماء/العنصر الطاليسي كمبدأ أولي وأصيل القى التلميذ عنصرًا آخرًا، الهواء، أصلًا للعالم في فضاء التفلسف.
إن نظرية أناكسيمينس حول التغيير المتعاقب للمادة من خلال التخلخل والتكاثف لاقت رواجًا بين الكثير من الفلاسفة. قام هيراكليتس ببعض التطورات في النظرية وتناولها بارمنيدس نقدًا. وتبنى انكساغوراس جزئية نشأة المادة الأولية من نظرية أناكسمينس رغم الاختلافات الجذرية بينهما فيما يتعلق بماهية المادة. وجد أفلاطون في نظرية أناكسمينس تفسيرًا منطقيًا للتغيير أما في نظرية الأمراض لأبيقراط بات الهواء الأناكسمينسي حجر الأساس فيها وكذلك نظرية ديوجين الأبولوني(3).
أناكسيمينس (586-626ق.م) ترك خلفه كتابًا فقدناه مبكرًا، أي قبل ألفي عام. لا نعرف عنه الكثير، لا عن حياته ولا عن فلسفته، وما نعرف عنه يعود إلى كتابات أرسطو وأفلاطون وشيشرون وديوجين. فسر العالم تفسيرًا ماديًا محضًا، لم يترك للإله دورًا يلعبه في عملية الخلق رغم أنه لم ينكر وجوده. نظريته الأهم هي التي تقول بأن الوجود قائم على عمليتي التخلخل والتكثيف، وأن كل الموجودات لها الجوهر ذاته وهو الهواء الذي يتحرك ويصير بلا نهاية وبلا زمن.
عندما يتعلق الأمر بحماية بشرتنا من التأثيرات القاسية لأشعة الشمس، فإن استخدام واقي الشمس أمر…
اكتشف فريق من علماء الآثار 13 مومياء قديمة. وتتميز هذه المومياوات بألسنة وأظافر ذهبية،وتم العثور…
ركز العلماء على الخرسانة الرومانية القديمة كمصدر غير متوقع للإلهام في سعيهم لإنشاء منازل صالحة…
من المعروف أن الجاذبية الصغرى تغير العضلات والعظام وجهاز المناعة والإدراك، ولكن لا يُعرف سوى…
الويب 3.0، الذي يشار إليه غالبًا باسم "الويب اللامركزي"، هو الإصدار التالي للإنترنت. وهو يقوم…
لطالما فتنت المستعرات العظمى علماء الفلك بانفجاراتها القوية التي تضيء الكون. ولكن ما الذي يسبب…