عندما يجد معارضو التطور أنفسهم محاصرين بأدلة دامغة على التطور، يلوحون بورقتهم الأخيرة، قائلين بأن التطور غير قابل للرصد أو التجربة. ويستنتجون من إدعائهم أن التطور لا يصمد أمام منهج العلم التجريبي. وعلى الرغم من أن هذا القول هو سوء فهم لآلية عمل العلم التجريبي، فعملية الرصد لا تعني بالضرورة أن نشهد كل شيء ونراه بأعيننا، ولكننا سنتغاضى عن هذا ونقدم لهم ما يبحثون عنه. نستعرض في مقال اليوم أمثلة من التطور السريع الذي لا يتطلب ملايين الأعوام لكي نرصده، فهل سيقرّون بحقيقة التطور؟
محتويات المقال :
على جزيرة «كاواي-Kauai» (إحدى جزر هاواي)، اعتاد أن يعيش نوع من الصراصير يعتمد ذكوره على إصدار الضجيج كنداء للإناث باستخدام أجنحته. ولكن هناك مشكلة في ذلك السلوك، إذ أن هذا الضجيج لا يجذب الإناث وحسب، ولكنه يجذب أيضًا نوعًا من الذباب، الذي يصيب الصرصور بالطفيليات الآكلة للحم، والتي بدورها تتسبب في مقتل الصرصور بعد أسبوع.
ولكن قلب التطور موازين هذه المعادلة، حيث ظهر نوع جديد من ذكور تلك الصراصير بأجنحة مشابهة لأجنحة الإناث التي لا تصدر ضجيجًا. فأجنحة الذكور التي تصدر ضجيجًا تحتوي على أجزاء تشبه المكشطة والأسنان، وهذا هو ما يتسبب بالضجيج. ولكن النوع الجديد يمتلك أجنحة صامتة كتلك التي تمتلكها الإناث.
ونرى هنا أن الذكور من التي تصدر ضجيجًا ستحصل على فرصة أعلى في التزاوج والتكاثر من النوع الجديد، حيث ستستطيع أن تجذب الإناث بضجيجها. ولكن هذا سيكون صحيحًا فقط في حالة عدم وجود الذباب. فالصراصير ذات الأجنحة الصامتة لن تجذب انتباه الذباب وستتكاثر في مأمن من الطفيليات الآكلة للحم.
هذا ما حدث بالفعل، ففي عام 2003، أصبحت جزيرة كاواي تعج بالصراصير الصامتة. وعلى مدى 20 جيلًا فقط، أصبحت صراصير جزيرة كاواي كلها من النوع الصامت، وهذا يعد واحدًا من أقوى أمثلة التطور السريع. [1]
في عام 1848، تم تسجيل اكتشاف أول عثة مفلفلة سوداء، حيث كان العث الفلفل أبيض اللون. إلا أن ما كان نادرًا في عام 1848 أصبح شائعًا على مدى ال 50 سنة التالية، حيث أصبح العث الأسود يشكل نسبة 98% من العث الموجود في مدن إنجلترا، فما السبب؟
كانت إنجلترا في ذلك الوقت تمر بما يعرف ب «الثورة الصناعية-Industrial revolution»، فكانت تبني المزيد من المصانع. واستخدمت المصانع الفحم كوقود لها، وهو ما تسبب بتصاعد كميات كبيرة من الدخان الأسود. وتسبب الدخان في كسوة الأشجار باللون الأسود، وهو ما أثّر على لون العث.
اعتقد العلماء في بادئ الأمر أن العث يغير لونه ليلائم لون الأشجار، أو أن لون العث قد تغير تأثرًا بالكيماويات الموجودة في الدخان. ولكن الأبحاث تظهر أن السبب كان جينيًا، فاللون الأسود كان نتيجة لطفرة في الحمض النووي لحشرة عث واحدة. مررت تلك الحشرة الطفرة لباقي نسل هذه العثة، ولكن لماذا انتشر العث الأسود على حساب العث الأبيض؟
يرجع تفسير هذا إلى الانتخاب الطبيعي، حيث أن اللون الأبيض لم يعد يوفر التمويه الكافي للنجاة بعد تغير لون الأشجار. حصل العث الأسود على فرصة أكبر في البقاء وبالتالي التكاثر.
ويستمر تطور العث حتى اليوم، ففي آخر 50 عامًا، قل التلوث في معظم الدول الصناعية بشكل كبير. وكما تتنبأ نظرية التطور بالانتخاب الطبيعي لداروين، أصبحت أعداد العث الأسود في تناقص مع نقص التلوث في الغابات. [2] ولأن قوة النظريات العلمية تكمن في قدرتها على التنبؤ، تزداد قوة نظرية التطور مع كل حالة تنبؤية ناجحة.
في عام 1971، نقل بعض العلماء 5 أزواج من «سحالي الحائط الإيطالية-Italian wall lizards» من جزيرة Pod kopiste إلى جزيرة Pod Mrcaru، علمًا بأن جزيرة Pod Mrcaru كانت تحتوي على مجتمعها الخاص من السحالي. وبعد 36 عام (أي ما يُعادل 30 جيلًا من السحالي)، عاد العلماء إلى الجزيرة ليجدوها ممتلئة بالسحالي.
ليس هذا ما يثير الدهشة، وإنما التحليل الجيني لهذه السحالي الذي أظهر أنها تنحدر من ال 10 سحالي التي تركها العلماء سابقًا. حيث اختفى السحالي الأصلية الساكنة للجزيرة. وهنا تأتي المفاجأة، حيث استطاعت السحالي التي تركها العلماء تطوير صفات يتطلب تطويرها ملايين السنين في 36 عامًا فقط.
أصبحت السحالي الجديدة تتغذى على النباتات (بعد أن كان مصدر الغذاء الرئيسي لها هو الحشرات). كما امتلكت عضة أقوى، ورؤوسًا أطول وأعرض. ليس هذا وحسب، بل طوّرت ما يُعرف ب «الصمام اللفائفي الأعوري-Ileocecal valve»، وهي عضلة تفصل بين الأمعاء الدقيقة والأمعاء الغليظة لتساعد السحالي على إبطاء عملية الهضم لتحويل السليلوز الموجود في النباتات إلى أحماض دهنية متطايرة.
كل هذا في 36 عامًا فقط! لقد كانت هذه النتائج صادمة، فهي تُبرز قوة التطور وقدرته على إحداث تغيرات كبيرة في فترات زمنية قصيرة. كما أنها من أقوى أمثلة التطور السريع. [3]
ذكرنا في هذا المقال بعض الأمثلة على التطور السريع، ونقول “بعض” لأن هذه الأمثلة ليست الوحيدة. هناك الكثير والكثير من المرات التي حدث فيها التطور في مدى زمني قصير. كتبنا مقالًا سابقًا عن أمثلة للتطور في المعامل، فأدلة التطور أكثر بكثير من أن تُحصى في مقال أو حتى كتاب. اخترنا هنا فقط أبرز الأدلة وأكثرها انتشارًا وأسهلها شرحًا وقابلية للتوضيح.
[1] berkeley
[2] ask a biologist
[3] national geographic
عندما يتعلق الأمر بحماية بشرتنا من التأثيرات القاسية لأشعة الشمس، فإن استخدام واقي الشمس أمر…
اكتشف فريق من علماء الآثار 13 مومياء قديمة. وتتميز هذه المومياوات بألسنة وأظافر ذهبية،وتم العثور…
ركز العلماء على الخرسانة الرومانية القديمة كمصدر غير متوقع للإلهام في سعيهم لإنشاء منازل صالحة…
من المعروف أن الجاذبية الصغرى تغير العضلات والعظام وجهاز المناعة والإدراك، ولكن لا يُعرف سوى…
الويب 3.0، الذي يشار إليه غالبًا باسم "الويب اللامركزي"، هو الإصدار التالي للإنترنت. وهو يقوم…
لطالما فتنت المستعرات العظمى علماء الفلك بانفجاراتها القوية التي تضيء الكون. ولكن ما الذي يسبب…
View Comments