في خضم التحديات الصحية التي تواجه البشرية، يبرز العقم عند الرجال كأحد أبرز القضايا التي تتطلب حلولًا مبتكرة. ومع تزايد معدلات انخفاض خصوبة الرجال عالميًا، يتسابق العلماء والباحثون للكشف عن الأسباب الجذرية لهذه الظاهرة، وتطوير علاجات فعّالة. المقال التالي يستعرض ثلاثة اختراقات علمية حديثة، تتناول حركة الحيوانات المنوية كعنصر حاسم في الخصوبة، وتقدم حلولًا واعدة من الروبوتات المجهرية إلى الموجات فوق الصوتية وصولًا إلى فهم أعمق للبروتينات المتحكمة في هذه الحركة.
يُعدّ العقم عند الرجال مشكلة صحية عالمية متنامية، ويشكل انخفاض حركة الحيوانات المنوية (Asthenozoospermia) أحد أسبابها الرئيسية. في استجابة لهذه الأزمة، كشفت دراسات حديثة عن آفاق علاجية جديدة، منها:
خصوبة الرجال في مرمى التحدي
لم يعد العقم حكرًا على النساء، بل أصبح انخفاض خصوبة الرجال ظاهرة عالمية تستدعي اهتمامًا عاجلًا. تشير العديد من الدراسات إلى أن جودة وكمية الحيوانات المنوية في تراجع مستمر، وأن ضعف حركة الحيوانات المنوية (Sperm Motility) يمثل عقبة رئيسية أمام تحقيق الحمل. هذه الحركة، التي تُعرف بقدرة الحيوانات المنوية على السباحة بفعالية نحو البويضة، هي حجر الزاوية في عملية الإخصاب الطبيعية.
في هذا السياق، يقدم العلماء حلولًا غير تقليدية، تتجاوز العلاجات التقليدية، وتعتمد على التقنيات الحديثة، من الروبوتات المجهرية التي تحمل الأمل في توجيه الحيوانات المنوية، إلى التحفيز بالموجات فوق الصوتية الذي يعيد لها النشاط، وصولاً إلى اكتشافات جينية تفسر أسرار حركتها المعقدة.
تفكيك أسرار الحركة وتطوير العلاجات
أولاً: الروبوتات المنوية… توجيه ذكي نحو الخصوبة
في إنجاز علمي لافت، قام فريق بحثي من جامعة توينتي الهولندية بتطوير روبوتات دقيقة مستوحاة من الحيوانات المنوية البشرية، بهدف علاج أنواع معينة من العقم. يقوم الابتكار على تغليف الحيوانات المنوية الطبيعية بجسيمات نانوية مغناطيسية، مما يسمح لأول مرة بتتبعها وتوجيهها بدقة متناهية داخل الجسم.
يقول الباحث الرئيسي، الدكتور إسلام خليل، إن هذا النهج “يحول أنظمة توصيل الخلايا الطبيعية إلى روبوتات مبرمجة”. وقد أظهرت التجارب الأولية على نموذج ثلاثي الأبعاد للجهاز التناسلي الأنثوي أن هذه الروبوتات يمكن توجيهها بنجاح عبر تجويف الرحم وصولًا إلى قناتي فالوب باستخدام مجال مغناطيسي خارجي.
ما يميز هذه التقنية هو القدرة على التتبع الفوري للحيوانات المنوية بالأشعة السينية، وهو أمر كان شبه مستحيل مع الحيوانات المنوية الطبيعية. هذا الاختراق لا يفتح الباب أمام علاج العقم فقط، بل يسهم أيضًا في فهم أفضل لآليات التلقيح الطبيعي، وتحسين تقنيات التلقيح الصناعي (IVF).
ثانياً: الموجات فوق الصوتية… محرك الطاقة للحيوانات المنوية
تتجه أنظار العلماء أيضًا نحو تقنيات بسيطة ولكنها فعّالة. فقد كشفت دراسة أجراها علماء من جامعة موناش في ملبورن عن طريقة غير مكلفة لزيادة حركة الحيوانات المنوية البطيئة. وجد الباحثون أن تحفيز عينات من السائل المنوي بالموجات فوق الصوتية (Ultrasound) يمكن أن يزيد من حركتها بنسبة تصل إلى 266%.
في الدراسة، قام الفريق بتحفيز عينات من الحيوانات المنوية، ووجدوا أن 59% من الحيوانات التي لم تكن متحركة بدأت بالسباحة بعد 20 ثانية فقط من التعرض للموجات. ويعتقد الباحثون أن هذه الموجات تعمل على تحفيز الميتوكوندريا (Mitochondria)، وهي “مصانع الطاقة” داخل الخلية، مما يمنح الحيوانات المنوية دفعة قوية للحركة.
هذا الاكتشاف يمثل أملًا كبيرًا للمرضى الذين يعانون من ضعف حركة الحيوانات المنوية، حيث يمكن أن يقلل الحاجة إلى إجراءات مكلفة ومعقدة مثل حقن الحيوانات المنوية داخل السيتوبلازم (ICSI).
ثالثاً: الأسرار الجينية… فك شفرة حركة السوط
لا يمكن فصل العوامل التكنولوجية عن الفهم البيولوجي العميق. فقد قام فريق من الباحثين في جامعة أوساكا اليابانية بفك شفرة آلية حيوية تتحكم في حركة الحيوانات المنوية. كشفت دراستهم المنشورة في مجلة Nature Communications عن دور حاسم لبروتين يسمى CFAP91.
تُدفع الحيوانات المنوية بواسطة السوط (Flagellum)، الذي يشبه السوط الطويل، وتعد حركته الدقيقة ضرورية للوصول إلى البويضة. ووجد الباحثون أن بروتين CFAP91 يعمل ك”سقالة” لتجميع الأجزاء الداخلية المعقدة للسوط، والتي تُسمى “الأسلاك الشعاعية” (Radial Spoke).
وقد أظهرت التجارب على الفئران أن غياب هذا البروتين لا يؤدي فقط إلى ضعف بنية السوط، بل يسبب العقم التام. كما كشفت الدراسة عن بروتين آخر، هو EFCAB5، الذي يعمل بالتنسيق مع CFAP91 لتنظيم حركة السوط. هذه النتائج تقدم رؤية غير مسبوقة للآليات الجزيئية التي تتحكم في حركة الحيوانات المنوية، مما قد يؤدي إلى تطوير تشخيصات وعلاجات جينية جديدة تستهدف العوامل الوراثية للعقم.
نحو مستقبل خالٍ من العقم
تُظهر هذه الاكتشافات العلمية الحديثة أن فهمنا للعقم وتحديدًا لضعف حركة الحيوانات المنوية، يتطور بسرعة فائقة. لقد تجاوز العلم مجرد العلاجات السطحية ليغوص في أعماق آليات الحركة البيولوجية.
الروبوتات المجهرية تَعِد بتوفير حلول دقيقة وموجهة للمشاكل التشريحية، والموجات فوق الصوتية تقدم طريقة بسيطة وغير مكلفة لتعزيز كفاءة الحيوانات المنوية، بينما الاكتشافات الجينية تفتح الباب أمام علاجات جذرية تستهدف الأسباب الوراثية للعقم.
على الرغم من أن هذه التقنيات ما زالت في مراحلها الأولية وتتطلب المزيد من البحث والتجارب السريرية، إلا أنها تمثل بصيص أمل حقيقي لملايين الأزواج حول العالم الذين يواجهون صعوبة في الإنجاب. إنها رحلة علمية مثيرة، تجمع بين التكنولوجيا والبيولوجيا، بهدف تحقيق حلم الأبوة والأمومة.
"النيروجيكو": عندما يُعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل الإنسان. كتاب يستشرف مستقبل الوجود في عصر الخوارزميات ثورة…
في عالم يتسارع فيه العلم لتجاوز حدود المستحيل، يبرز التعديل الوراثي كأحد أكثر التقنيات إثارة…
هل اقتربنا من "الدماغ الرقمي"؟ في عالم يتسارع فيه الابتكار التكنولوجي بوتيرة غير مسبوقة، أصبح…
خطوة هائلة إلى الأمام في مجال الطب التجديدي والعلاجات الجينية يُعرف مرض النقرس (Gout) باسم…
يترقب عشاق الفلك في جميع أنحاء العالم، وخاصة في المنطقة العربية، حدثاً فلكياً نادراً ومثيراً…
ارتبطت القهوة، هذا المشروب العتيق الذي يوقظ الحواس ويدفئ الأرواح، بالطقوس الصباحية واللقاءات الاجتماعية. لكن…