يتعرض الكثير من الناس حول العالم للعنف الجنسي، حيث يبلغ عدد ضحاياه وسطيا 433648 كل عام في الولايات المتحدة الأمريكية، أما في بلادنا العربية فالتقارير قليلة وغير دقيقة بسبب عدم الإبلاغ عن هذه الجرائم من قبل الضحايا لأسباب مختلفة. ولكن في تقرير إحصائي نشره الباروميتر العربي حول التحرش الجنسي والعنف المنزلي في 12 دولة عربية مختلفة خلال 12 شهر كان التحرش أكثر شيوعا في جمهورية مصر العربية، حيث تعرض 44 بالمئة من المصريين المشاركين بالإحصائية للتحرش اللفظي، فيما تعرضت النساء للتحرش أكثر من الرجال في جميع الدول العربية المشاركة ما عدا تونس والعراق حيث كان الرجال أكثر تعرضا. ولا يسعنا إلا أن نذكر في مقدمتنا هذه الخلط الحاصل بين الناس حول مفهوم التحرش الجنسي. فما تعريفه؟!
يعتبر التحرش الجنسي تبعا للجنة تكافؤ فرص العمل الأمريكية EEOC محاولة غير لائقة وغير مرغوب بها للتقرب الجنسي وتقديم لمكافآت وميزات مشروطة بالخدمات الجنسية، وما إلى ذلك من السلوكيات اللفظية أو الجسدية ذات الطابع الجنسي. وهناك بعض السلوكيات التي لا تعتبر تحرشا إلا بعد تكرارها لدرجة تصبح معها مزعجة وتخلق بيئة يسودها التوتر.
هذا ويمكن أن نقسم التحرش الجنسي لأنواع ثلاث:
⏹التحرش المرتبط بالنوع الجنسي Gender harassment : وتحمل في هذه الحالة السلوكيات اللفظية وغير اللفظية مضمونا عدائيا وإقصائيا أو تشير لكون الضحية مواطن درجة ثانية.
⏹الاهتمام الجنسي غير المرغوب به Unwanted Sexual Attention : ويشتمل على سلوكيات لفظية أو جسمية كاللمس غير المرغوب به أو نشر شائعات عن الضحية.
⏹الإكراه الجنسي Sexual Coercion : وفي هذه الحالة تكون الميزات المهنية أو التعليمية مشروطة بتقديم خدمات جنسية.
ومما يفرض أهمية كبيره لقضية التحرش الجنسي هو آثارها السلبية الجمة على ضحاياها ابتداء من مشاعر الألم والمعاناة إلى الاضطرابات النفسية كاضطراب ما بعد الصدمة Post traumatic disorder وأيضا فقدان الشعور بالأمان وتراجع الأداء الوظيفي والدراسي بسبب البيئة المريبة المحيطة بهم. وفي الحقيقة تختلف الفرضيات حول أسباب التحرش الجنسي، فيما تعتبر الملابس المتهم الشعبي الأول، ولكن هل هذا صحيح؟!
محتويات المقال :
الملابس: بين طريقة التفكير المجتمعية والواقع الفعلي
تحتل ملابس ضحايا العنف الجنسي بما فيه التحرش حيزا كبيرا من التبريرات الشعبية له، فهي تستخدم وسيلة ملامة للضحية. مما دفع الباحثين على مدى سنوات لدراسة العلاقة بين الثياب والعنف والتحرش الجنسي، وجاءت دراسة Sharron-Lennon وزملاؤها عام 2017 تحليلية لدراسات تمت خلال فترة 25 عاما مضت، حيث تبين تركيز الباحثين على تقصي إمكانية حصول العنف والتحرش الجنسي بناء على وجهات نظر المشاركين، بينما تحرت دراستان فقط حصوله فعليا على أرض الواقع وخلصتا لعدم وجود علاقة بين ملابس الضحية والعنف الجنسي. وسنستعرض لكم في هذه الزاوية أهم الدراسات التي تم تحليلها:
نبتدأ قصتنا مع دراسة Vali and Rizzo سنة 1991م والتي تقصت آراء مجموعة من الأطباء النفسيين في الولايات المتحدة الأمريكية حول دور الملابس القصيرة بالتعرض للتحرش الجنسي ونتيجتها اعتقاد غالبيتهم أن النسوة المرتديات لملابس كاشفة عن جسمهن أكثر عرضة للجرائم الجنسية. فيما اهتمت دراسة أخرى في ذات العام ل Workman & Jhonson بآراء عامة الناس حول دور مواد الزينة ( الماكياج) بالتعرض للتحرش الجنسي وكانت آراء المشاركين أن من تكثر من وضع مواد الزينة أكثر عرضة للتحرش. وفي العام التالي تحرت دراسة Workman & Jhonson الآراء حول دور الملابس، حيث عرض على المشاركين صورتان إحداهما لعارضة ترتدي ملابس تعتبر مثيرة Provocative ( جاكيت سوداء وبلوزة تكشف عن الصدر وتنورة قصيرة وحذاء ذو كعب عال ) أما الثانية فتعتبر ملابسها غير مثيرة ( جاكيت سوداء وبلوزة ذات رقبة عالية أي لا تكشف عن الصدر وتنورة تصل لتحت الركبة وحذاء ذو كعب متوسط العلو) وكانت آراء النساء والرجال المشاركين أن العارضة ذات الملابس المثيرة أكثر عرضة للتحرش الجنسي.
ولا أملك هنا إلا أن أشير أن مايعتبر محتشما في مجتمع ما قد يعتبر فاضحا في مجتمع آخر، أليس كذلك؟!
بعد حوالي عشرين عاما من الدراسات السابقة أتت دراسة Moor 2010 لدراسة العلاقة بين الملابس والتعرض الفعلي للعنف الجنسي، حيث عرض على المشاركين مجموعة من الأسئلة منها نمط ملابس المشاركات في حياتهن اليومية ثم عن تعرضهن سابقا للعنف الجنسي. وخلصت الدراسة لعدم وجود اختلاف واضح في نمط اللباس بين ضحايا العنف الجنسي وغير الضحايا وبذلك لا يمكن اعتبار الملابس القصيرة سببا للتعرض للعنف الجنسي.
فيما كانت دراسة Lynch 2007 ميدانية لحفل جامعي حيث تبين أن لباسا محتشما وغير مثير يتحول قي الحقيقة لمثير عندما ترسل المرأة إشارات معينة ( كتوهجها مثلا )، حيث تعرضت في هذه الحالة لملامسات جنسية.
إذا أهي الملابس أم الرغبة بالشعور بالقوة؟!
قامت تيريزا باليز في دراستها المنشورة عام 2007 في مجلة Duke بتحليل لدعاوي قضائية مرفوعة من قبل ضحايا التحرش الجنسي وفوجئت أن المدعى عليهم نادرا ما استخدموا الملابس حجة في دفاعهم عن أنفسهم، كما وجدت باليز بعودتها لجذر المشكلة أن المرأة المرتدية للباس مثير ليست هي الضحية المثالية في الغالب وإنما تلك التي يشعر الجاني بقدرته على السيطرة عليها، كما وجدت أن اللباس المثير لا يشير بالضرورة لرضا الضحية وإنما على النقيض فقد يكون مؤشرا على الثقة بالنفس والحزم فيما ترى باليز أيضا أن التعليقات حول اللباس تستخدم لتقويض سلطة المرأة العاملة.
لا يمكن بالتأكيد أن نعزي التحرش الجنسي لسبب واحد، فما هي دوافعه إذا؟!
نشرت البروفسورة في الطب النفسي Shawn Burn مقالتها حول التحرش الجنسي في صحيفة Sage 2018 وبينت من خلالها فرضيات عدة لهذه الظاهرة من بينها فرضية بيولوجية تقترح أن رغبة الذكور بالتزاوج والإنجاب تقود سلوك التحرش الجنسي بالنساء، أي أنه إشارة بالرغبة الجنسية من الذكر تسيء فهمها النساء. فيما يقوم الذكور بالتحرش بأقرانهم الذكور أيضا للانتقاص من منافسيهم هؤلاء وتقليل قيمتهم الاجتماعية. ولهذه الفرضية مشاكل عدة فهي تفتقر للدعم البحثي ولا تفسر الإكراه الجنسي sexual coercion والتحرش المرتبط بالنوع الجنسي Gender related.
وحسب مقال Burn ترى وجهة نظر اجتماعية-ثقافية أن التحرش ناجم عن النظرة الذكورية والقبول المجتمعي للعنف ضد النساء، ونجد مثيلا لوجهة النظر هذه في دراسة أجرتها منظمة العمل العالمية 1992 بينت ارتباط التحرش بالقوة Power وحدوثه خاصة في المجتمعات التي تعتبر المرأة أداة جنسية ومواطن درجة ثانية.ويذكر مقال Burn أيضا وجهة نظر نفسية نسوية Femenist Psychological perspective تعتبر أن التحرش الجنسي ينشأ ويتعزز في المجتمعات ذات التصنيف الهرمي والتي يتربع على عرشها الرجل غيري الميول الجنسية. كما يجد البعض أن التحرش يستخدم وسيلة لمعاقبة أولئك الشاذين عن الهوية والميول الجنسية التي يعتبرها المجتمع طبيعية.
ونذكر في هذا السياق دراسة Konik & Cortina 2008 والتي تضمنت 629 موظفا في التعليم العالي وخلصت لتعرض الأقليات الجنسية( كالمثليين مثلا) للتحرش بأنواعه وخاصة ذلك المرتبط بالنوع الجنسي أكثر من مغايري الميول الجنسية.
ترى Sausan Flaudi وهي صحفية ومؤلفة أمريكية نسوية أن بعض الرجال ينظرون للمساواة الاقتصادية مع المرأة كتهديد لدورهم التقليدي ومنه فالتحرش الجنسي عنف بقصد حماية النفس
تنقلنا وجهة نظر Flaudi في الحقيقة للتفكير في فرضية أخرى ذكرت في مقالة Burn وهي ما يدعى بنموذج التهديد بالقوة The Power Theat Model ففي هذه الحالة يقوم الرجال مغايري الميول الجنسية Heterosexual باستخدام التحرش الجنسي كوسيلة ترهيب للنساء وأقليات الميول الجنسية الأخرى وذلك لضمات استمرار سيطرتهم وسلطتهم ومنعهم من الترشح أو الترقية لشغل مناصب أعلى، وفي ذات السياق يلجأ الرجال للتحرش بالنساء على الإنترنت لتقويض رغبتهن في النقاش أو لدفعهن للانسحاب من الألعاب الإلكترونية.
إذا، يمكن أن نقول أن التحرش الجنسي طريقة الرجال في التعبير عن امتعاضهم من منافسة المرأة لهم اقتصاديا، حيث خلق دخولها المفاجئ لسوق العمل في السنوات الأخيرة رد فعل عند الرجل يشتمل على جانبين أولهما لفظ النساء العاملات باعتبارهن تهديدا لسيطرة الرجال في مجالهم التقليدي مما أدى لحصولهن على ميزات أقل وتعرضهن للتحرش الجنسي بغية الإحراج واستعادة السيطرة الاقتصادية. أما الجانب الثاني فهو الإكراه الجنسي Sexual Coercion أي استغلال المرأة لتقديم خدمات جنسية مقابل حصولها على أي ميزة وظيفية.
وأثناء رحلتنا في مقال Burn توقفنا عند فرضيتين أيضا إحداهما فرضية الضحية المستضعفة التي تشير لكون الناس ذوي الحالة الاجتماعية أو الوظيفية المتدنية أكثر عرضة للتحرش لتفسر بذلك كون غالبية المتحرشين ذكورا والإناث ضحايا. أما الفرضية الأخرى فتناقش الجاني وهي فرضية القوة الاجتماعية Social Power فهنا يعتقد المتحرش أن موقعه الاجتماعي أو الوظيفي يكسبه حقا في طلبات معينة من عملائه وبالتالي يسيء استعمال سلطته.
أما محطتنا الأخيرة فهي الدور الكبير للمنظمات والمؤسسات في خلق بيئة مناسبة للتحرش، إذ تجد دراسة تحليلية Meta Analysis قام بها Willness, Steel, Lee عام 2007 وتضمنت 70 ألف شخص أن التسامح والتغاضي الوظيفي في مؤسسات العمل هو أكثر وأهم عامل منبئ بحصول التحرش في مثل هذه المؤسسات. وتناقش Burn في مقالتها هذه الناحية فالتسامح الوظيفي والمجتمعي يعكس القوة الذكورية ويقزم من فعل التحرش الجنسي من خلال إعطائه أعذارا للجاني وإلقاء اللوم على الضحية التي تتردد بدورها في الإبلاغ خوفا من النتائج فقد يقابل بلاغها هذا بالتجاهل أو بوصمها بالعار.
المصادر:
University of Minnesota: Sexual harassment
The Psychology of Sexual Harassment
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :