Ad

غالبًا ما يُنظر إلى مفهوم الجهل على أنه جانب سلبي من الطبيعة البشرية، لكن ماذا لو قلنا لك أنه جزء طبيعي وأساسي من حياتنا؟ في هذه المقالة، سوف نتعمق في فكرة أن الجهل ليس أمرًا لا مفر منه فحسب، بل ضروري أيضًا لنمونا وبقائنا. سنستكشف المفهوم العلمي للجهل، واختيار الجهل بإرادتنا، وكيف يؤثر على قراراتنا وعلاقاتنا اليومية.

فهم حدود الوعي البشري

إن فهم حدود الوعي البشري أمر بالغ الأهمية في إدراك قوة الجهل. لدى البشر رغبة متأصلة في معرفة وفهم العالم من حولهم، ولكن هذه الرغبة غالبًا ما تكون محدودة بسبب قيود إدراكهم. إن العقل البشري قادر على معالجة كميات هائلة من المعلومات، ولكنه أيضًا عرضة للتحيزات والاستدلالات والقيود التي يمكن أن تؤدي إلى معرفة غير كاملة أو غير دقيقة.

أحد القيود الأساسية للوعي البشري هو مفهوم الاهتمام. لا يستطيع البشر التركيز إلا على كمية محدودة من المعلومات في أي وقت، مما يعني أنهم يجهلون بطبيعتهم الغالبية العظمى من المحفزات التي تحيط بهم. حيث يميل الأشخاص إلى تفويت التفاصيل الواضحة لأنهم لا ينتبهون إليها.

علاوة على ذلك، فإن البشر مقيدون أيضًا بتحيزاتهم المعرفية، مثل التحيز التأكيدي، حيث يميلون إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتهم الحالية، ويهملون المعلومات التي تتعارض مع معتقداتهم. وهذا يمكن أن يؤدي إلى نقص الفهم والمنظور الضيق، الأمر الذي يمكن أن يزيد من إدامة الجهل.

إن إدراك حدود الوعي البشري أمر ضروري لفهم قوة الجهل. ومن خلال الاعتراف بهذه القيود، يمكن للأفراد البدء في معالجة تحيزاتهم والبحث عن معلومات جديدة لسد الفجوات في معارفهم. وهذا يمكن أن يؤدي إلى فهم أكثر دقة للعالم وتقدير أكبر لتعقيد المعرفة الإنسانية.

علم التجهيل

قد يبدو علم التجهيل (agnotology)، وهو مجال فرعي من الفلسفة، وكأنه تناقض لفظي، كيف يمكن للمرء أن يدرس ما هو غير معروف؟ ومع ذلك، فإن هذا المجال الرائع من البحث يتعمق في تعقيدات الجهل البشري، ويكشف عن آثاره الدقيقة والعميقة على حياتنا اليومية. ومن خلال فحص آليات الجهل، يسلط علم التجهيل الضوء على العلاقة بين المعرفة والجهل، ويكشف عن المناطق الرمادية التي غالبًا ما نجد أنفسنا نتنقل فيها.

في كتابه “فهم الجهل”، يقوم الفيلسوف دانييل دينيكولا بتشريح مفهوم الجهل ببراعة، ويميز بين أشكاله المختلفة، مثل الجهل العقلاني، والجهل الاستراتيجي، والجهل المتعمد. ويجادل بأن الجهل ليس مجرد غياب المعرفة، بل هو خيار نشط ومتعمد يمكن أن يكون له عواقب وخيمة. إن عمل دي نيكولا بمثابة تذكير قوي بأن الاعتراف بجهلنا هو الخطوة الأولى نحو الفهم الحقيقي والنمو.

إن رؤى علم التجهيل لها آثار بعيدة المدى، حيث تؤثر على كيفية تعاملنا مع عملية صنع القرار، والعلاقات، وحتى نمونا الشخصي. ومن خلال الاعتراف بحدود معرفتنا، يمكننا تطوير فهم أكثر دقة لأنفسنا وللعالم من حولنا. ويمكن لهذا الوعي بدوره أن يعزز الشعور بالتواضع، ويشجعنا على طرح المزيد من الأسئلة، والبحث عن وجهات نظر جديدة، وتطوير تقدير أعمق لطبيعة الواقع المعقدة والمتعددة الأوجه.

الجهل العقلاني

يشير الجهل العقلاني (rational ignorance)، وهو مفهوم قدمه الفيلسوف دانييل دينيكولا، إلى القرار الواعي بالبقاء غير مطلع على موضوع معين. قد يبدو هذا غير بديهي، لأننا غالبًا ما ننظر إلى المعرفة باعتبارها موضوعًا قيمًا. ومع ذلك، في مجتمع غني بالمعلومات، من الضروري معرفة متى يجب الحفاظ على الجهل، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأمور التي لا تؤثر بشكل مباشر على حياتنا.

فكر في الأمر مثل تصفح متجر الكتب. قد تصادف مجلدًا ثقيلًا حول موضوع لا يثير اهتمامك. وبدلًا من استثمار الوقت والجهد في قراءته، قررت التركيز على الأمور الأكثر إلحاحًا. وهذا مثال على الجهل العقلاني. ومن خلال اختيار عدم التعامل مع معلومات معينة، ستتمكن من تخصيص وقتك ومواردك المحدودة بشكل أكثر فعالية.

يمكن أن يكون الجهل العقلاني أيضًا آلية للتكيف. ففي مواجهة المعلومات الهائلة، من السهل أن تشعر بالإرهاق. ومن خلال البقاء غير مطلع بشكل استراتيجي، يمكنك تجنب الشعور بالقلق أو التوتر بشأن الأشياء التي هي خارجة عن سيطرتك. على سبيل المثال، إذا لم تكن مهتمًا بالسياسة، فقد تختار تجنب وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي خلال مواسم الانتخابات. يتيح لك ذلك الحفاظ على الشعور بالتوازن العاطفي والتركيز على الاهتمامات الأكثر إلحاحًا.

ومع ذلك، من الضروري التمييز بين الجهل العقلاني والجهل المتعمد. يتضمن الجهل المتعمد تجنب المعلومات التي قد تتحدى معتقداتنا أو قيمنا عمدًا. قد يكون هذا ضارًا، لأنه يمنعنا من التعامل مع وجهات نظر متنوعة واكتساب فهم أعمق للعالم.

الجهل المتعمد حيث اختيار الجهل بإرادتنا

الجهل المتعمد (willful ignorance) هو مفهوم غريب، حيث اختيار الجهل وأن نبقى غير مطلعين على شيء ما بإرادتنا، غالبًا بسبب الخوف أو الانزعاج. هذه الظاهرة أكثر شيوعا بكثير مما نعتقد. هل سبق لك أن تجنبت قراءة الأخبار لأنها محبطة للغاية، أو تعمدت عدم التعرف على موضوع معين لأنه يجعلك غير مرتاح؟ هذا هو الجهل المتعمد.

يرى الفيلسوف دانييل دينيكولا أن الجهل المتعمد يمكن أن يكون مفيدًا وضارًا. من ناحية، يمكن أن يساعدنا على تجنب الحقائق المؤلمة أو الحفاظ على العلاقات من خلال تجنب المواضيع الحساسة عمدًا. ومن ناحية أخرى، يمكن أن يؤدي الجهل المتعمد إلى سوء الفهم، والصراعات، وحتى الأذى لأنفسنا أو للآخرين.

دعونا نفكر في مثال بسيط. لنقل أنك في علاقة رومانسية، وتشك في أن حبيبتك تخفي شيئًا عنك. بدلاً من مواجهتها أو البحث عن الحقيقة، تختار تجاهل شكوكك والتركيز على الجوانب الإيجابية في علاقتك. وهذا هو الجهل المتعمد. أنت تدرك أن شيئًا ما قد يكون خطأ، ولكنك تختار عمدًا عدم استكشافه أكثر.

يقترح دي نيكولا أن الجهل المتعمد غالبًا ما ينبع من الخوف من اكتشاف حقيقة غير سارة، أو الخوف من فقدان شخص ما، أو الخوف من التغيير. ومن خلال الاعتراف بهذه المخاوف ومعالجتها، يمكننا أن نبدأ في التغلب على الجهل المتعمد واكتساب فهم أعمق لأنفسنا والعالم من حولنا.

اختيار الجهل بإرادتنا

أضرار الجهل المتعمد

إذن ما الضرر في الجهل المتعمد؟ أولاً، يمكن أن يؤدي ذلك إلى سوء الفهم. فعند اختيار الجهل بإرادتنا ونتجنب التعرف على شيء ما، فإننا نخاطر بوضع افتراضات أو القفز إلى الاستنتاجات. يمكن أن يؤدي هذا إلى صراعات أو جرح المشاعر أو حتى تخريب العلاقات.

علاوة على ذلك، فإن الجهل المتعمد يمكن أن يعيق النمو الشخصي والوعي الذاتي. ومن خلال اختيار عدم مواجهة الحقائق المؤلمة، قد نتجنب الانزعاج على المدى القصير ولكننا نتغاضى عن فرص التأمل الذاتي والتحسين.

إذن، كيف يمكننا التغلب على الجهل المتعمد؟ الخطوة الأولى هي الاعتراف بمخاوفنا وتحيزاتنا. يجب أن ندرك عندما نتعمد تجنب موضوعات أو محادثات معينة. بعد ذلك، يمكننا أن نبدأ في استكشاف هذه المواضيع، وطرح الأسئلة، والبحث عن وجهات نظر متنوعة، والانخراط في مناقشات مفتوحة وصادقة.

الواقع الوجودي للجهل

عندما نتنقل في تعقيدات الحياة، يتم تذكيرنا باستمرار بحدود معرفتنا. كلما تعلمنا أكثر، كلما أدركنا مقدار ما لا نعرفه. إن هذا الواقع الوجودي المتمثل في عدم المعرفة هو جانب أساسي من التجربة الإنسانية. نحن جميعًا جاهلون بطريقة ما، وهذا الجهل يشكل تصوراتنا ومعتقداتنا وأفعالنا.

وبهذا المعنى، فإن الجهل ليس مجرد نقص في المعرفة، بل هو حضور فاعل يؤثر في حياتنا. إنها المتغيرات المجهولة التي تكمن في الظل، في انتظار اكتشافها. إنها الأسئلة التي لم تتم الإجابة عليها هي التي تطاردنا، وتذكرنا بفنائنا وعدم اليقين بشأن المستقبل.

ولكن ما معنى البقاء في الجهل؟ هل هي حالة من الجهل السعيد، أم صراع مستمر لكشف الحقيقة؟ ربما هو قليلا من كليهما. فمن ناحية، يمكن أن يوفر الجهل شعورًا بالراحة، مما يسمح لنا بتجنب الانزعاج الناتج عن عدم اليقين ومسؤولية المعرفة. ومن ناحية أخرى، يمكن أن يؤدي أيضًا إلى الخوف والقلق والركود، حيث نضطر إلى مواجهة حدود فهمنا.

يرى الفيلسوف دانييل دينيكولا أن الجهل ليس مجرد حالة سلبية، بل هو خيار نشط. نحن نختار ما نريد أن نعرفه وما لا نعرفه، وهذا الاختيار له عواقب. من خلال الاعتراف بجهلنا وقبوله، يمكننا أن نبدأ في معايرة فهمنا، وتحديد ما نريد أن نتعلمه وما نحن على استعداد لتجاهله.

المصدر

What Don’t We Know? | newyorker

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


علم اجتماع فلسفة

User Avatar


عدد مقالات الكاتب : 563
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *