Ad

في سماء يوليو 2025، لفت جرم سماوي غامض الأنظار، مذنب ضخم أطلق عليه اسم “3 أي/أطلس”، ما أعاد إلى الواجهة أحد أكثر الألغاز المحيرة في تاريخ علم الفلك والبحث عن حياة خارج الأرض، ألا وهو “إشارة واو!” (Wow! signal) التي التُقِطت مرة واحدة فقط في عام 1977. هذه الإشارة، التي استمرت 72 ثانية فقط، كانت قوية وغامضة لدرجة أنها أثارت تساؤلات حول إمكانية أن تكون رسالة من حضارة فضائية ذكية. اليوم، وبعد مرور ما يقرب من نصف قرن، يعيد الاكتشاف الجديد للمذنب “3 أي/أطلس” من نفس المنطقة في كوكبة “القوس” (Sagittarius) إشعال شرارة الأمل والجدل حول طبيعة هذه الإشارة. فهل يمتلك هذا المذنب، بخصائصه المدهشة وسرعته الهائلة، المفتاح لحل لغز “صرخة الفضاء اليتيمة” التي حيرت العلماء لعقود؟

واو!”: صرخة يائسة في الظلام

في الخامس عشر من أغسطس عام 1977، كان عالم الفلك جيري إيمان (Jerry Ehman) يراجع البيانات التي سجلها التلسكوب الراديوي “الأذن الكبيرة” (Big Ear) التابع لجامعة أوهايو الأمريكية، والذي كان جزءًا من مشروع “البحث عن ذكاء خارج الأرض” (SETI). وبينما كان يحلل السجلات، لفت نظره تسلسل غريب من الأرقام والحروف: “6EQUJ5”. كانت هذه الرموز تشير إلى إشارة قوية بشكل غير عادي، أعلى بـ 30 مرة من ضوضاء الخلفية الكونية، واستمرت 72 ثانية كاملة، وهي المدة التي كان فيها التلسكوب موجّهًا إلى تلك النقطة المحددة في الفضاء بسبب دوران الأرض.

لم يتمكن إيمان من إخفاء دهشته، فقام برسم دائرة حمراء حول الرموز وكتب بجانبها كلمة “Wow!”، وهي الكلمة التي أصبحت فيما بعد الاسم الرسمي لهذه الظاهرة الفلكية المحيرة.

ما زاد من غموض الإشارة هو ترددها، الذي بلغ 1420 ميجاهرتز (MHz)، وهو تردد انبعاث الهيدروجين الذري (hydrogen atom)، وهو العنصر الأكثر وفرة في الكون. ووفقاً للاتفاقيات الدولية، يُحظّر استخدام هذا التردد من قبل المحطات الأرضية لأي بث لاسلكي، مما يجعل مصدر الإشارة الفضائي المحتمل أمراً مثيراً للجدل. الأهم من ذلك، لم يتم سماع هذه الإشارة مرة أخرى قط، لا من نفس التلسكوب ولا من أي تلسكوب آخر في أي مكان في العالم، مما جعلها “صرخة يتيمة في الظلام”.

المذنب “3 أي/أطلس”: العودة من نفس المكان

بعد عقود من الحيرة، عاد لغز “واو!” ليحتل مكانة بارزة في الأوساط العلمية مع اكتشاف المذنب الغامض “3 أي/أطلس” (3A/ATLAS) في يوليو 2025. ما يميز هذا الجرم السماوي هو أنه انطلق من نفس المنطقة الفلكية التي صدرت منها إشارة “واو!”، وهي كوكبة “القوس” (Sagittarius)، التي تقع بالقرب من مركز مجرة درب التبانة (Milky Way).

يُعتبر هذا المذنب جسماً فريداً من نوعه لعدة أسباب:

  • سرعته الفائقة: يتحرك المذنب “3 أي/أطلس” بسرعة استثنائية تفوق سرعة أي مذنب آخر تم رصده، مما يثير تساؤلات حول طبيعة حركته ووجود قوة دفع غير معروفة.
  • حركته الغريبة: يبدو أن مسار المذنب ليس عادياً، حيث يظهر وكأنه يتحرك “بذكاء” داخل مجموعتنا الشمسية، مما دفع بعض العلماء إلى التكهن بأنه قد لا يكون مذنبًا تقليديًا، بل مركبة فضائية مموهة.
  • منشأه المشترك: تشير الدراسات الفلكية الأولية إلى أن المذنب وإشارة “واو!” قد يكون لهما منشأ مشترك في كوكبة “القوس”، حيث تتركز النجوم والثقوب السوداء فائقة الكتلة، مما يجعلها منطقة ذات أهمية قصوى للبحث عن حضارات فضائية محتملة.

نظريات وحلول محتملة للغز “واو!”

منذ اكتشافها، طُرِحَت العديد من الفرضيات لتفسير إشارة “واو!”، لكنها بقيت في معظمها مجرد تخمينات:

  • فرضية الحضارة الفضائية الذكية: وهي الفرضية الأكثر إثارة وتشويقًا، وتفترض أن الإشارة كانت محاولة متعمدة للتواصل من قبل كائنات فضائية ذكية. يدعم هذه الفرضية قوة الإشارة، ومدة استمرارها، وترددها الذي يتزامن مع تردد الهيدروجين، وهو “علامة كونية” يمكن أن تفهمها أي حضارة متطورة.
  • فرضية التداخل الأرضي: وهي إحدى الفرضيات التي سرعان ما تم استبعادها، حيث تم التأكد من عدم وجود أي مصدر أرضي أو محطة بث على تردد 1420 ميجاهرتز في المنطقة أو بالقرب منها.
  • فرضية التلألؤ بين النجوم: تشير هذه النظرية إلى أن الإشارة قد تكون ناتجة عن “تلألؤ” (Scintillation) مصدر طبيعي، مثل نجم أو كوازار (Quasar)، حيث تتسبب الغازات في الفضاء بين النجوم في تضخيم الإشارة لفترة قصيرة جدًا.
  • فرضية المذنب: وهي الفرضية التي عادت بقوة الآن مع اكتشاف المذنب “3 أي/أطلس”. في عام 2017، قدم فريق من العلماء بقيادة البروفيسور أنطونيو باريس (Antonio Paris) من كلية سانت بيترسبرغ بولاية فلوريدا فرضية مثيرة للجدل تقول إن الإشارة قد تكون ناتجة عن انبعاثات من غاز الهيدروجين الذي يحيط بالمذنبات. ورغم أن هذه الفرضية قوبلت بالتشكيك من قبل بعض العلماء، فإن اكتشاف المذنب الجديد من نفس المنطقة قد يمنحها مصداقية جديدة.

على مدى ما يقرب من نصف قرن، ظلت “إشارة واو!” لغزًا عصيًا على الحل، محفزًا للخيال العلمي وموقدًا للأمل في أننا لسنا وحدنا في هذا الكون الفسيح. اليوم، يمنحنا اكتشاف المذنب “3 أي/أطلس” فرصة نادرة لإعادة النظر في هذا اللغز من منظور جديد. هل سيكون هذا المذنب هو الحل المنطقي للغز؟ أم أن وجوده في نفس المنطقة التي صدرت منها الإشارة هو مجرد صدفة كونية؟

بينما يستمر العلماء في دراسة المذنب الجديد وجمع المزيد من البيانات، تبقى الأسئلة معلقة. بغض النظر عن النتيجة، فإن هذه الظاهرة تؤكد على أن الكون لا يزال مليئًا بالأسرار، وأن رحلة البحث عن إجابات ما زالت في بدايتها. فهل سيتمكن التطور التكنولوجي في المستقبل من كشف الحقيقة وراء “صرخة الفضاء اليتيمة”؟

طارق قابيل
Author: طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير...

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


أكاديمية البحث العلمي

User Avatar

د. طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير علمه وخدمة مجتمعه. وقد ترك بصمة واضحة في مجال العلوم الأساسية، وفتح آفاقًا جديدة للباحثين الشبان.


عدد مقالات الكاتب : 77
الملف الشخصي للكاتب :

التالي

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *