
في قلب الحياة البرية الأسترالية، يواجه أحد أيقونات التنوع البيولوجي، وهو “ضفدع الكوربوري الجنوبي” (Southern Corroboree Frog)، تحديًا وجوديًا يهدد بقاءه. هذا الكائن الصغير، الذي يتميز بجلده الأصفر والأسود المخطط الجذاب، أصبح على حافة الانقراض الوظيفي بسبب عدو خفي وشديد الفتك: فطر “باتراكوكيتريوم ديندروباتيدس” (Batrachochytrium dendrobatidis) المسبب لمرض “الكايتريديومياسيس” (Chytridiomycosis). هذا الفطر، الذي يُوصف بأنه الأكثر تدميراً للحياة البرية على الإطلاق، قضى على أعداد هائلة من البرمائيات حول العالم، مهدداً بمسح أنواع بأكملها من الوجود. فهل تمتلك تقنيات الجينوم المتطورة القدرة على سحب هذا الضفدع الملون من حافة الهاوية، ومنح البرمائيات الأمل في مستقبل أفضل؟
تهديد عالمي يزحف: فطر الكايتريد المدمر
منذ ثمانينيات القرن الماضي، بدأت ظاهرة غامضة في الانتشار بين أعداد البرمائيات (Amphibians) في جميع أنحاء العالم، تمثلت في حالات نفوق جماعي غير مسبوقة. لسنوات عديدة، ظل الباحثون في حيرة من أمرهم أمام هذه الوفيات الجماعية، إلى أن تمكنوا في عام 1998 من تحديد المسبب: إنه مرض “الكايتريديومياسيس” أو “الكايتريد” ببساطة، الذي يسببه فطر “باتراكوكيتريوم ديندروباتيدس” (Batrachochytrium dendrobatidis) (Bd). يُعتقد أن هذا الفطر نشأ في آسيا، وقد انتشر عن طريق الخطأ إلى أستراليا والأمريكتين، ومن ثم انتشر بسرعة عبر تجمعات الضفادع الأصلية.
يُعد “الكايتريد” من الأمراض الفطرية المائية التي تصيب جلد البرمائيات، حيث ينمو الفطر على سطح الجلد، مما يعيق قدرة الضفدع على التنفس وامتصاص الماء من خلال جلده، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى اختناقه ببطء وموته. في بعض الأنواع، تصل معدلات الوفيات إلى 100%. تؤكد الدكتورة تيفاني كوش (Tiffany Kosch)، الباحثة في جينوميات الحفاظ على البيئة بجامعة ملبورن، أن “الكايتريد هو المرض الأكثر تأثيراً على الحياة البرية على الإطلاق، فقد تسبب في انقراض أكثر من 90 نوعًا من البرمائيات، وهناك ما لا يقل عن 500 نوع آخر مهددة بالانقراض بسببه. إنها مشكلة مستمرة في جميع أنحاء العالم”.
معركة الضفدع الكوربوري الجنوبي: عملاق جيني في جسد صغير
لطالما كان إنقاذ الضفادع من هذا الفطر المدمر شغفًا للدكتورة كوش. خلال دراساتها العليا، عملت على تحديد انتشار فطر الكايتريد في بيرو، حيث أثر على حوالي 80 نوعًا من الضفادع. وعلى الرغم من أن المشروع كان مجزيًا، إلا أنها شعرت بالإحباط بسبب قلة الحلول المتاحة واستمرار موت الضفادع، فضلاً عن ضعف الاستثمار في جهود الحفاظ الاستباقية. دفعتها هذه الظروف إلى التركيز على “ضفدع الكوربوري الجنوبي” (Pseudophryne corroboree) في أستراليا، حيث لاحظت استثمارًا كبيرًا في برامج إعادته إلى بيئته الطبيعية.
في أستراليا، ترك الكايتريد تأثيرًا مدمرًا بشكل خاص على أعداد الضفادع البرية منذ دخوله، ولم يكن هناك نوع أكثر تضرراً من الضفدع الكوربوري الجنوبي. هذا النوع الصغير والشهير يعيش فقط في نطاق محدود شبه ألبي في ولاية نيو ساوث ويلز، حيث تضاءلت أعداده بشكل كبير بسبب المرض. أصبح هذا النوع الآن “منقرضًا وظيفيًا” (Functionally extinct)، مما يعني أن أعداده في البرية أصبحت قليلة جدًا لدرجة لا تمكنها من التكاثر بفعالية والحفاظ على وجودها. وقد فشلت برامج التربية في الأسر في إنشاء أعداد جديدة قابلة للاستمرار على الرغم من المحاولات المتعددة لإعادتها إلى البرية.
عقدت الدكتورة كوش العزم على استكشاف طرق لحماية الضفدع الكوربوري الجنوبي من الكايتريد، وظهرت تقنيات الجينوم كأفضل سبيل لمنح هذه الضفادع فرصة للبقاء. وبالتعاون مع خبراء من مشروع جينوم الفقاريات بجامعة روكفلر، قامت الدكتورة كوش وفريقها في جامعة ملبورن بتسلسل جينوم هذا النوع، الذي وصفه المؤلفون بأنه “أعلى جودة لجينوم ضفدع تم نشره حتى الآن”.
المفاجأة الأولى التي واجهها الفريق كانت الحجم الهائل لجينوم الضفدع الكوربوري الجنوبي؛ فقد تبين أنه ثلاثة أضعاف حجم الجينوم البشري. تقول الدكتورة كوش: “في البداية، كان حجم الجينوم مفاجأة كبيرة. لقد قمنا ببعض التقديرات المبكرة، واعتقدنا أنه سيكون حوالي ستة جيجابايت، لكنه انتهى به المطاف إلى حوالي تسعة جيجابايت. بعض أقاربه لديهم جينومات أصغر بكثير.”
بناء المقاومة: برامج التربية مقابل تحرير الجينات
لحسن الحظ، ومن خلال برنامج التربية في الأسر، تمكن الباحثون من تحديد عدد قليل من الضفادع التي أظهرت مقاومة للفطر، أطلقوا عليها “إيلي” تشبيهاً بالشخصية الرئيسية في مسلسل “ذا لاست أوف أس” (The Last of Us) التي كانت محصنة ضد الفراثيم. السؤال التالي كان ما إذا كانت هذه المناعة قابلة للتوريث. لتحديد ما إذا كانت هناك متغيرات جينية مرتبطة بالمقاومة، أجرت الدكتورة كوش وزملاؤها دراسة الارتباط على مستوى الجينوم (Genome-Wide Association Study). تشرح الدكتورة كوش: “لقد نظرنا في التباين داخل الأنواع في قابلية الإصابة بالكايتريد، ووجدنا تباينًا، ووجدنا أنه قابل للتوريث بنسبة 20 بالمائة تقريبًا، وهي سمة متعددة الجينات (Polygenic trait)، بحيث يمكننا تربية الضفادع لزيادة مقاومتها”.
على الرغم من أن تربية أعداد من الضفادع المحصنة تبدو حلاً بسيطًا، إلا أن الدكتورة كوش تشير إلى أنه قد لا يكون حلاً فعالاً بما يكفي. توضح: “لا نعرف ما إذا كان ذلك كافياً لتحقيق أعداد مكتفية ذاتيًا، وهو هدفنا، لأن بعض الأنواع قد طورت مقاومة وتعافت في البرية، وهذا لم يحدث مع ضفادع الكوربوري. قد يكون السبب هو أنها غير قادرة على تطوير مقاومة كافية”.
لتغطية جميع الاحتمالات، يقوم الفريق أيضًا بالتحقيق في إمكانية استخدام تقنية تحرير الجينات (Gene Editing) لإنشاء سلالات من الضفادع المقاومة. على سبيل المثال، من خلال إدخال متغيرات جينية مفيدة في أجنة الضفادع وحيدة الخلية باستخدام تقنية “كريسبر-كاس9” (CRISPR-Cas9). وقد بدأت الدكتورة كوش بالفعل تعاونات دولية مع خبراء مثل جاك روبرت (Jacques Robert)، عالم الأحياء الدقيقة والمناعة بجامعة روتشستر، الذي يتمتع بخبرة واسعة في تحرير الجينات والعمل مع البرمائيات.
ومع ذلك، فإن تحديد جين له تأثير كبير على قابلية الضفادع للإصابة بالفطر يشبه البحث عن إبرة في كومة قش. لحسن الحظ، تقول الدكتورة كوش إن العديد من أنواع الضفادع في أستراليا، بما في ذلك “ضفدع الضفدعة الشرقية الشائع” (Common Eastern froglet)، التي تتداخل مناطق انتشارها مع الضفدع الكوربوري الجنوبي، تظهر مقاومة قوية للكايتريد. وتقول كوش: “لقد قمت للتو بتسلسل جينوم هذا النوع أيضًا، لذا سأقوم ببعض الأعمال المقارنة للبحث عن الجينات [المسؤولة عن المقاومة]”.
بنك الخلايا الجذعية: أمل لمستقبل البرمائيات
بالتوازي مع هذه الجهود، يقوم أعضاء فريق الدكتورة كوش أيضًا بمسح مواقف الجمهور تجاه الهندسة الوراثية في مشاريع الحفاظ على البيئة، بالإضافة إلى العمل مع المجتمعات الأصلية لضمان نجاح أي عمليات إعادة إدخال للضفادع التي تم تربيتها في الأسر. وحتى الآن، تقول إن المجتمع يدعم عملهم: “إن استخدام الهندسة الوراثية في الحفاظ على البيئة غير مسبوق إلى حد كبير. لا نعرف كيف سيمضي، لكننا نأمل، إذا بدأنا مبكراً في تعزيز المواقف الإيجابية للجمهور، ألا تكون هناك مشكلة”.
يتضمن أحد مشاريع الدكتورة كوش ذات الصلة العمل مع المتاحف لجمع الأنسجة المخزنة وإنشاء “بنوك الخلايا الجذعية” (Stem Cell Biobanks) لجميع البرمائيات المهددة بالانقراض في أستراليا. وفقًا لكوش، سيكون من الأسهل بكثير فحص الجينات المرشحة التي حددتها في دراسة الارتباط على مستوى الجينوم في مزارع الخلايا بدلاً من الحيوانات الحية. تضيف كوش: “سيكون هذا بمثابة مورد جيني حتى لا نفقد جينات هذه الأنواع في المستقبل، بحيث يمكننا استنساخها يومًا ما، إذا لم تتكاثر هذه الحيوانات”.
إذا تكلل عمل الدكتورة كوش بالنجاح مع الضفدع الكوربوري الجنوبي، فإنها تعتقد أنه يمكن أن يساعد فريقها وغيره من الباحثين على استكشاف جينات مقاومة الأمراض في البرمائيات الأخرى، وتقديم معلومات قيمة لاستراتيجيات الحفاظ على حوالي 200 نوع تعتمد حاليًا على برامج التربية في الأسر. تقول كوش: “ما نأمله هو أن يكون العمل في [الضفدع الكوربوري الجنوبي] بمثابة إثبات للمفهوم (Proof-of-concept) للبرمائيات الأخرى”. وتضيف: “يمكن أن يعمل هذا النهج أيضًا مع الحياة البرية الأخرى المهددة بتهديدات مستعصية، بما في ذلك تغير المناخ.” إن التحدي كبير، لكن العلم يقدم اليوم أدوات قوية، مثل الجينوميات وتحرير الجينات، قد تكون هي الأمل الأخير في إنقاذ هذه الكائنات المهددة بالانقراض، والحفاظ على التنوع البيولوجي لكوكبنا.
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :