
مع نهاية عام 2025، يبرز البحث العلمي في مصر كأحد المحاور الرئيسية في استراتيجية التنمية المستدامة “رؤية مصر 2030”. لم يعد البحث العلمي مجرد ترف أكاديمي، بل تحول وفقاً لتصريحات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إلى “ركيزة اقتصادية” تسعى لبناء اقتصاد المعرفة. في هذا التقرير، نستعرض بلغة الأرقام والتحليل المهني ما تحقق من إنجازات وما يواجه المنظومة من عثرات.
أولاً: مؤشرات النجاح العالمي.. لغة الأرقام لا تكذب
حققت مصر في عام 2025 قفزات نوعية في تصنيفها الدولي، وهو ما تؤكده قواعد البيانات العالمية مثل “سكوبس” (Scopus) و”سيماجو” (SCImago):
- المركز 25 عالمياً: صعدت مصر للمركز الـ 25 في عدد الأبحاث المستشهد بها دولياً، متصدرة إقليمياً منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في عدد المراكز البحثية المصنفة.
- جودة النشر (Q1 & Q2): نجح الباحثون المصريون في نشر 78% من إنتاجهم العلمي في مجلات الربع الأول والثاني عالمياً، وهي المجلات الأعلى تأثيراً، بينما وصلت نسبة النشر في الربع الأول وحده (Q1) إلى 53.5%.
- التجمعات التكنولوجية: أدرجت مصر في المرتبة 83 ضمن أفضل 100 تجمع للعلوم والتكنولوجيا والإبداع عالمياً، لتكون الممثل الوحيد لأفريقيا والشرق الأوسط في هذه القائمة المرموقة.
- قائمة ستانفورد: تم إدراج 1106 باحثا مصريا ضمن قائمة أفضل 2% من علماء العالم، مما يعكس كفاءة العنصر البشري رغم ضعف الإمكانيات في بعض الأحيان.
ثانياً: ركائز الدعم.. بنك المعرفة والشراكات الدولية
تعتمد المنظومة المصرية في دعمها للباحثين على عدة أدوات استراتيجية:
بنك المعرفة المصري (EKB): الذي أصبح في 2025 أحد أضخم المنصات الرقمية المعرفية عالمياً، حيث ساهم بشكل مباشر في رفع تصنيف الجامعات المصرية عبر توفير المصادر العلمية مجاناً لملايين الطلاب والباحثين.
برنامج “أفق أوروبا” (Horizon\ Europe): انضمام مصر كشريك كامل في هذا البرنامج الأوروبي الضخم فتح آفاقاً لتمويل الأبحاث المشتركة بالعملة الصعبة، وسمح للباحث المصري بالمنافسة على قدم المساواة مع نظيره الأوروبي.
ثالثاً: مبادرة “تحالف وتنمية”.. ربط المختبر بالمصنع
أطلق الدكتور حسام عثمان، نائب الوزير لشؤون الابتكار، مبادرة “تحالف وتنمية” باستثمارات تتجاوز 2.2 مليار جنيه.
الهدف: إنشاء 9 تحالفات ابتكارية إقليمية تضم 18 جامعة و56 شريكاً صناعياً.
القطاعات المستهدفة: ركزت هذه التحالفات في عام 2025 على الهيدروجين الأخضر، والسيارات الكهربائية، والزراعة الذكية لضمان الأمن الغذائي.
رابعاً: نقد موضوعي.. تحديات هيكلية تهدد الاستدامة
لا يمكننا إغفال الجوانب المظلمة التي تعيق انطلاق المنظومة بالكامل، والتي تتمثل في:
فجوة الكوادر الشابة: تعاني المراكز البحثية من توقف التعيينات للكادر البحثي (مساعد باحث، مدرس مساعد) منذ أكثر من 10 سنوات، مما أدى إلى “شيخوخة” المنظومة وغياب جيل الوسط.
أزمة الإدارة بالوكالة: نحو 70% من قيادات المراكز البحثية يعملون بنظام “القائم بالأعمال”، وهو ما يعيق وضع خطط طويلة الأمد ويخلق حالة من عدم الاستقرار الإداري.
نزيف العقول (Brain\ Drain): تسببت الأزمات الاقتصادية وضعف الرواتب في هجرة واسعة للباحثين المتميزين للخارج، مع صعوبة كبيرة في استقطابهم للعودة.
نقص الدعم الفني: يواجه الباحثون صعوبة في صيانة الأجهزة العلمية المعقدة لغياب الكوادر الهندسية المتخصصة (Technicians)، مما يجعل أجهزة بملايين الدولارات “خارج الخدمة”.
خامساً: تحليل قطاعي للإنجازات في 2025
| أهم مخرجات عام 2025 | القطاع العلمي |
| تطوير بروتوكولات علاجية محلية للأمراض المتوطنة وزيادة الأبحاث في التكنولوجيا الحيوية. | الصحة والطب |
| ابتكارات في مجال تخزين الطاقة الشمسية وتحسين كفاءة الخلايا الكهروضوئية. | الطاقة |
| استنباط سلالات محاصيل استراتيجية (قمح، ذرة) أكثر تحملاً للملوحة والجفاف. | الزراعة |
| توطين تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الكبيرة للمدن الذكية المصرية. | الذكاء الاصطناعي |
دراسة حالة: “تحالف إقليم الدلتا للابتكار” – نموذج رائد لربط البحث العلمي بالصناعة في 2025
تعد مبادرة “تحالف وتنمية“ التي أطلقتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في مصر بنهاية عام 2024 وازدهرت نتائجها في 2025، أكبر محاولة مؤسسية لكسر “الأبراج العاجية” للجامعات. الفكرة تقوم على استغلال الميزانية الضخمة المرصودة (أكثر من 2.2 مليار جنيه) لخلق شراكات بين الجامعات، والمراكز البحثية، والقطاع الخاص في نطاق جغرافي واحد.
أولاً: هيكل تحالف إقليم الدلتا (نموذجاً)
يعتبر تحالف إقليم الدلتا من أبرز التحالفات التسعة الفائزة، حيث يضم 7 جامعات حكومية وأهلية، وأكثر من 12 شريكاً صناعياً.
المهمة الاستراتيجية: مواجهة تحديات “الزراعة الذكية” ($Smart\ Agriculture$) وتطوير الصناعات الغذائية.
المشاركون: جامعات (طنطا، المنصورة، كفر الشيخ) بالتعاون مع شركات كبرى في قطاع الأسمدة والإنتاج الحيواني.
ثانياً: الإنجازات المحققة في 2025
خلال العام المالي المنتهي في 2025، نجح هذا التحالف في تحقيق نتائج ملموسة:
- توطين تكنولوجيا الصوب الذكية: إنتاج أنظمة تحكم في الري والتسميد تعتمد على الذكاء الاصطناعي ($AI$) لتقليل استهلاك المياه بنسبة 30%.
- بدائل الأعلاف: تطوير تركيبات علفية تعتمد على مخلفات النخيل والزراعة، مما قلل فاتورة استيراد الأعلاف لشركاء التحالف بنسبة 15%.
- حاضنات الأعمال: تأسيس 5 شركات ناشئة ($Startups$) لشباب الخريجين تحت مظلة التحالف، تعمل في مجال “تكنولوجيا الغذاء”.
ثالثاً: تحليل التحديات في ضوء “الواقع الميداني“
رغم النجاح التقني المذكور أعلاه، كشفت ممارسات عام 2025 عن فجوات تنظيمية تتسق مع رؤيتكم النقدية:
- تمثيل المراكز البحثية: يلاحظ أن هيمنة الجامعات على التحالفات أدت إلى تهميش المراكز البحثية المتخصصة. فعلى سبيل المثال، رغم وجود “معهد بحوث الهندسة الوراثية الزراعية” في صلب اهتمامات تحالف الدلتا، إلا أن دوره كان استشارياً وليس قيادياً، مما يثير تساؤلاً حول معايير الاختيار.
- البيروقراطية المالية: يواجه الباحثون داخل التحالفات صعوبات في صرف بنود التمويل (التي تتراوح بين 90 إلى 150 مليون جنيه للتحالف الواحد) بسبب لوائح مالية قديمة لا تناسب “ديناميكية” القطاع الخاص.
- غياب الكادر الوسيط: تكررت مشكلة تعطل بعض النماذج الأولية (Prototypes) في معامل التحالفات بسبب نقص الفنيين المهرة المسؤولين عن التشغيل والصيانة، وهو ما يعزز فكرة أن “الماكينات موجودة والخبراء موجودون.. ولكن المنظومة تفتقد الفني المتميز”.
رابعاً: ميزان الأثر الاقتصادي
وفقاً لمؤشر المعرفة العالمي 2025، ساهمت هذه التحالفات في تحسين ترتيب مصر في “التعاون بين الجامعة والصناعة”، ولكن الأثر على “الناتج المحلي الإجمالي” (GDP) ما زال في طور التكون، حيث يتطلب العائد الاقتصادي الحقيقي دورة زمنية لا تقل عن 3 إلى 5 سنوات.
| وضع البحث العلمي (2025) | وضع البحث العلمي (قبل التحالفات) | وجه المقارنة |
| أبحاث تطبيقية مرتبطة بمشكلة صناعية | أبحاث للنشر والترقية فقط | التوجه البحثي |
| تمويل مشترك (حكومي + صناعي) | ميزانيات حكومية محدودة | التمويل |
| منتجات تجارية ونماذج صناعية | براءات اختراع حبيسة الأدراج | المخرجات |
خارطة الطريق لتطوير واستدامة منظومة البحث العلمي في مصر (2026 – 2030)
رغم تفوق مصر في مؤشر المعرفة العالمي 2025 واحتلالها المركز 25 عالمياً في النشر الدولي، إلا أن “القاعدة البشرية” واللوجستية للمراكز البحثية تعاني من تصدعات خطيرة. فمنظومة تعتمد على مجهودات الأفراد وتفتقر إلى استمرارية الأجيال (بسبب توقف التعيينات) هي منظومة مهددة بالانهيار بمجرد تقاعد الجيل الحالي.
المحور الأول: الإصلاح البشري وسد الفجوة الجيلية
لا يمكن بناء اقتصاد معرفة بدون “باحثين شباب” يمثلون وقود المستقبل.
- إطلاق “المشروع القومي لضخ الدماء“: البدء فوراً في إجراءات تعيين دفعات جديدة من المعيدين والمدرسين المساعدين (مساعد باحث) بالمراكز البحثية وفق معايير “الجدارة العلمية” فقط، مع وضع جدول زمني سنوي ثابت للتعيينات.
- كادر “المهندس الفني” المتميز: استحداث كادر وظيفي بامتيازات خاصة للمهندسين والفنيين المسؤولين عن تشغيل وصيانة الأجهزة العلمية الكبرى، لضمان استدامة الأجهزة التي تُشترى بملايين الدولارات وتتعطل لغياب الصيانة.
- برنامج “عقولنا العائدة“: تقديم حوافز مادية وضريبية، ومعامل مجهزة بالكامل، لاستقطاب الطيور المهاجرة من الباحثين (خاصة المدرجين في قائمة ستانفورد) لقيادة فرق بحثية داخل مصر.
المحور الثاني: الإصلاح الإداري والحوكمة
تحويل المراكز البحثية من “دواوين حكومية” إلى “وحدات إنتاج علمي”.
- إنهاء عصر “القائم بالأعمال“: إلزام وزارة التعليم العالي باختيار رؤساء المراكز والمعاهد البحثية بالأصالة وليس بالتكليف، بناءً على “خطة تطوير” يقدمها المرشح، مع تقييم سنوي للأداء.
- الاستقلال المالي المرن: منح المراكز البحثية مرونة في التصرف في ميزانياتها المحققة من “التمويل الذاتي” أو “التحالفات”، بعيداً عن قيود اللوائح المالية العقيمة التي تعيق شراء “كيماويات” أو “قطع غيار” بسيطة.
- رقمنة الإدارة: تحويل كافة الإجراءات الإدارية والمالية داخل الأكاديمية والمراكز إلى منظومة إلكترونية بالكامل لتقليل التدخل البشري والوساطة.
المحور الثالث: تطوير البنية التحتية واللوجستيات
- المركز الوطني لصيانة الأجهزة العلمية: إنشاء مركز مركزي يتبع الأكاديمية، يضم ورشاً فنية متقدمة وخبراء دوليين، تكون مهمته الصيانة الدورية للأجهزة في كافة المراكز والجامعات وتدريب الكوادر المحلية.
- المعامل المركزية المشتركة (Core\ Facilities): بدلاً من شراء أجهزة مكررة في كل معهد، يتم التركيز على إنشاء “مجمعات معملية كبرى” مفتوحة لكل الباحثين والقطاع الخاص بنظام “المستخدم” لضمان أقصى كفاءة تشغيلية.
المحور الرابع: ربط البحث العلمي بالسيادة الوطنية
- الأبحاث الموجهة (Targeted\ Research): توجيه 70% من ميزانية أكاديمية البحث العلمي حصرياً للمشروعات التي تعالج “الفجوات الاستيرادية” (مثل إنتاج المادة الخام للأدوية، رقائق أشباه الموصلات، والتقنيات الزراعية الموفرة للمياه).
- تطوير مبادرة “تحالف وتنمية“: اشتراط وجود مركز بحثي متخصص كـ “قائد تقني” أو “شريك أصيل” في كل تحالف إقليمي، لضمان استغلال خبرات الباحثين المتفرغين في المراكز البحثية وليس فقط الأكاديميين في الجامعات.
رؤية للمستقبل.. من “حصاد الأرقام” إلى “حصاد الأثر”
إن الانتقال بمصر من المركز 25 عالمياً في “النشر” إلى مراكز متقدمة في “الابتكار الصناعي” يتطلب شجاعة في اتخاذ القرارات.
إن تجربة “تحالف وتنمية” في عام 2025 أثبتت أن المال وحده لا يصنع ابتكاراً، بل تحتاج المنظومة إلى “إصلاح جذري” في بنية المراكز البحثية. النجاح الرقمي في “سكوبس” وتصنيفات “ستانفورد” هو واجهة مشرفة، ولكن “المحرك” الداخلي للمنظومة (الباحثين الشباب والفنيين) يحتاج إلى خطة تعيينات عاجلة وإعادة اعتبار إداري.
إن حصاد البحث العلمي في مصر لعام 2025 يدعو للتفاؤل الحذر؛ فالأرقام الدولية تضع مصر في مكانة متميزة عالمياً، والإنتاج العلمي في نمو مستمر. ولكن، لكي تتحول هذه الأبحاث إلى “قيمة مضافة” حقيقية في الاقتصاد، يجب على الدولة معالجة التحديات الهيكلية فوراً، وعلى رأسها ضخ دماء جديدة في المراكز البحثية، وتطوير الكادر الفني، وضمان أن تكون الاختيارات القيادية قائمة على المعايير العلمية الصرفة بعيداً عن العلاقات الشخصية.
إن حصاد عام 2025 هو جرس إنذار؛ فإما أن نستثمر في “الإنسان البشري” والبيئة التحتية الآن، أو نخاطر بفقدان كل ما حققناه من مكاسب رقمية دولية.
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :