
نجاح باهر لتقنية نقل النواة في منع الأمراض الوراثية للميتوكوندريا يفتح آفاقاً جديدة للأسر المتأثرة.
تُعرف الميتوكوندريا (Mitochondria) بأنها “محطة الطاقة” في الخلية، فهي المسؤولة عن إنتاج الطاقة اللازمة لوظائف الجسم الحيوية. لكن، عندما تصاب هذه الميتوكوندريا بطفرات جينية، فإنها تتسبب في مجموعة من الأمراض الوراثية الخطيرة المعروفة باسم أمراض الميتوكوندريا. هذه الأمراض تنتقل وراثيًا من الأم إلى أطفالها، وغالباً ما تكون غير قابلة للشفاء، مما يضع الأسر التي تعاني منها أمام خيارات صعبة ومؤلمة عند التفكير في الإنجاب. لطالما كان الأمل في إيجاد حلول لهذه المعضلة بعيد المنال، ولكن بفضل التطورات العلمية المذهلة، باتت هناك بارقة أمل جديدة. ففي إنجاز طبي وعلمي غير مسبوق، أعلن فريق من الباحثين في المملكة المتحدة عن ولادة ثمانية أطفال أصحاء، خالين من أمراض الميتوكوندريا الوراثية، وذلك بفضل استخدام تقنية مبتكرة تُعرف باسم “نقل النواة الأولية” (Pronuclear Transfer). هذا الإنجاز يمثل نقطة تحول حاسمة في مجال الطب الإنجابي ويوفر أملاً حقيقياً للآلاف من العائلات حول العالم التي تواجه خطر نقل هذه الأمراض لأجيالها القادمة.
خيارات صعبة تتعلق بالإنجاب:
لطالما شكلت أمراض الميتوكوندريا تحديًا كبيرًا للمجتمع الطبي والعلمي، نظرًا لطبيعتها الوراثية المعقدة وعدم وجود علاجات شافية لها. تُورّث هذه الأمراض من الأم إلى أبنائها، حيث تحمل الميتوكوندريا الخاصة بالبويضة الأموية الحمض النووي (DNA) المتحور. وقد أدت هذه الحقيقة إلى قيام العديد من الأسر بخيارات صعبة تتعلق بالإنجاب، تتراوح بين الامتناع عن الإنجاب أو المخاطرة بولادة أطفال مصابين بأمراض خطيرة قد تؤثر بشكل كبير على جودة حياتهم.
إنجاز تاريخي: ثمانية أطفال أصحاء بلا أمراض ميتوكوندريا
في تطور طبي فارق، أعلن فريق من الباحثين في المملكة المتحدة عن ولادة ثمانية أطفال أصحاء، أربعة فتيات وأربعة فتيان (بما في ذلك توأم متطابق)، وذلك باستخدام تقنية تبرع الميتوكوندريا ونقل النواة الأولية. هؤلاء الأطفال ولدوا لسبع نساء كنّ معرضات لخطر كبير في نقل أمراض خطيرة ناجمة عن طفرات في الحمض النووي للميتوكوندريا. تتراوح أعمار الأطفال حاليًا بين أقل من شهرين إلى أكثر من 24 شهرًا، وقد وُصفوا بأنهم أصحاء عند الولادة ويتطورون بشكل طبيعي.
نُشرت تفاصيل النتائج الإنجابية والسريرية لهذه العلاجات في ورقتين بحثيتين في مجلة “نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسن” (The New England Journal of Medicine – NEJM)، تحت عنواني “تبرع الميتوكوندريا والتشخيص الوراثي قبل الزرع (PGT) لتقليل خطر أمراض الحمض النووي للميتوكوندريا” و “تبرع الميتوكوندريا في مسار الرعاية الإنجابية لأمراض الحمض النووي للميتوكوندريا”. هذه الأوراق البحثية توثّق بدقة هذه الإنجازات وتقدم تفاصيل علمية للجمهور المتخصص والعام.
رحلة طويلة من البحث والتطوير
لم يكن هذا الإنجاز وليد الصدفة، بل هو ثمرة سنوات طويلة من الأبحاث والتجارب الدؤوبة. تعود جذور تقنية تبرع الميتوكوندريا القائمة على التلقيح الصناعي (IVF)، والمعروفة باسم “نقل النواة الأولية”، إلى عام 2010. ففي ذلك العام، نُشرت ورقة بحثية رائدة في مجلة “Nature” تحت عنوان “نقل النواة الأولية في الأجنة البشرية لمنع انتقال أمراض الحمض النووي للميتوكوندريا”. هذه الورقة، التي شاركت في تأليفها البروفيسورة ماري هربرت (Mary Herbert)، أستاذة بيولوجيا الإنجاب في جامعة نيوكاسل وجامعة موناش، وضعت حجر الأساس لهذه التقنية الواعدة.
في عام 2015، أقرت المملكة المتحدة تشريعًا يسمح لهيئة الإخصاب وعلم الأجنة البشرية (Human Fertilisation and Embryology Authority – HFEA) بتنفيذ علاجات تبرع الميتوكوندريا للنساء المعرضات لخطر كبير في نقل أمراض الحمض النووي للميتوكوندريا لأطفالهن. في الآونة الأخيرة، قامت أستراليا أيضًا بتغيير قوانينها لتسمح بهذه العملية، بينما لا تزال دول أخرى تمنعها. يعود أحد الأسباب الرئيسية لذلك، حسبما أشارت البروفيسورة هربرت، إلى أن معظم الدول لا تسمح بإنشاء الأجنة لأغراض البحث العلمي، وهو أمر ضروري لتطوير هذه التقنيات واختبارها.
كيف تعمل تقنية نقل النواة الأولية؟
تُجرى عملية نقل النواة الأولية بعد تخصيب البويضة (Egg). تتمثل الفكرة الأساسية في هذه التقنية في “إزالة” الحمض النووي النووي (Nuclear DNA) من البويضة التي تحمل طفرة في الحمض النووي للميتوكوندريا. بعد ذلك، يُزرع هذا الحمض النووي النووي المستخرج في بويضة سليمة تبرعت بها امرأة غير مصابة، بشرط أن تكون هذه البويضة قد تم إزالة حمضها النووي النووي الخاص بها مسبقًا.
بذلك، يحصل الجنين الناتج على الحمض النووي النووي من والديه البيولوجيين، بينما يتم وراثة الحمض النووي للميتوكوندريا بشكل أساسي من البويضة المتبرع بها. هذا يعني أن الطفل سيحمل الصفات الوراثية لوالديه، ولكن الميتوكوندريا السليمة التي تمثل “محطة الطاقة” في خلاياه ستكون من المتبرعة، وبالتالي يتجنب الطفل الإصابة بالمرض الوراثي. هذه العملية الدقيقة والمعقدة تتطلب مهارة عالية ودقة متناهية لضمان نجاحها.
التحديات المتبقية: مشكلة “الميتوكوندريا المتبقية”
على الرغم من النجاحات الباهرة التي تحققت، لا تزال هناك بعض التحديات التي يواجهها الباحثون. فالميتوكوندريا الحاملة لطفرات جينية يمكن أن توجد في الخلية بثلاث حالات: إما جميعها سليمة (wild-type)، أو جميعها متحورة (mutated)، أو خليط من الاثنين (heteroplasmy). في حالة الاختلاط (heteroplasmy)، يرتبط مستوى الميتوكوندريا المتحورة بحالة المرض: فكلما زاد عدد الميتوكوندريا المتحورة، زادت شدة المرض.
تراوحت مستويات الحمض النووي للميتوكوندريا المسببة للمرض، والتي تم الكشف عنها في دماء الأطفال حديثي الولادة بعد علاج نقل النواة الأولية، من غير قابلة للكشف إلى 16%. في حالتين من الحالات الثماني، كانت مستويات “الميتوكوندريا المتبقية” (carryover) من الحمض النووي للميتوكوندريا الأموية أثناء إجراء تبرع الميتوكوندريا “أعلى من المتوقع” بنسبتي 12% و 16%.
مع ذلك، تؤكد البروفيسورة هربرت أن هذه المستويات لا تزال “أقل بكثير من العتبة التي قد تسبب المرض”. مشكلة بقايا الميتوكوندريا تمثل تحديًا كبيرًا، نظرًا للعدد الهائل من الميتوكوندريا في الخلية. وكما أوضحت هربرت، فإن “السيتوبلازم [المادة التي تملأ الخلية] مليء بالميتوكوندريا!”
يتساءل الباحثون عن سبب ارتفاع مستوى الميتوكوندريا المتحورة في حالتين من الأطفال الثمانية. وقد استبعد الفريق الفرضية القائلة بأن هاتين الحالتين حملتا سيتوبلازمًا أموميًا أكثر (وبالتالي المزيد من الميتوكوندريا) أثناء نقل النواة الأولية. لكنهم يستكشفون إمكانية أن الميتوكوندريا المنقولة لا تنتشر بالتساوي عند نقلها. في هذه الحالة، يمكن أن يحدث إثراء (enrichment) يؤدي إلى مستويات أعلى قليلاً.
طمأن السير دوغ ترنبل (Sir Doug Turnbull)، الأستاذ الفخري لطب الأعصاب في جامعة نيوكاسل والمؤلف الرئيسي للورقة البحثية التي نشرت في مجلة “Nature” عام 2010، بأن المستويات الأعلى من الاختلاط لا تدعو للقلق. وأشار إلى وجود أدلة قليلة جدًا على أن الاختلاط يتغير كثيرًا في الأنسجة التي توقفت عن الانقسام (post-mitotic tissues). وبناءً على ذلك، يتوقع أن المستوى الذي يمتلكه الطفلان الآن سيظل هو نفسه طوال حياتهما.
ومع ذلك، فإن البروفيسورة هربرت ليست راضية عن المستويات الأعلى من الاختلاط، وتعتبر مشكلة بقايا الحمض النووي للميتوكوندريا التحدي الكبير التالي في عملهم. وبسبب هذا، تقول إن عملية نقل النواة الأولية هي عملية “لتقليل المخاطر” وليست ضمانًا للوقاية. وتضيف: “لا يمكننا ضمان الوقاية”. لكن هدفها هو سد هذه الفجوة بين تقليل المخاطر والوقاية التامة.
المتابعة الدقيقة: ضمان صحة وسلامة الأطفال
تعتبر متابعة الأسر، لتقييم صحة الأطفال، من أهم أجزاء هذا العمل. صرح الدكتور بوبي ماكفارلاند (Bobby McFarland)، مدير خدمة NHS المتخصصة للغاية للأمراض النادرة في الميتوكوندريا (صندوق مستشفيات نيوكاسل NHS Foundation Trust) وأستاذ طب الأطفال الميتوكوندريا في جامعة نيوكاسل، للصحفيين أنهم عملوا بجد لتطوير طرق تجعل الآباء مرتاحين لمواصلة المشاركة في الدراسة. ولتحقيق ذلك، تعاونوا مع مؤسسة “ليلي” (Lily Foundation): وهي مجموعة دعم للمرضى مقرها المملكة المتحدة تركز على دعم الأسر المتأثرة بأمراض الميتوكوندريا.
قال ماكفارلاند: “لا يمكننا إجبار الناس على إحضار أطفالهم إلينا”. لذلك، قام بتطوير دراسة تضمنت ما قاله الآباء إنهم يرغبون فيه: الوصول إلى رعاية متخصصة، والسرية، وعدم معاملة أطفالهم كـ “تجارب”.
بدأت المتابعة بأول نقطة بيانات في الأسبوع السابع من الحمل واستمرت بمكالمة كل ثلاثة أسابيع حتى الولادة. بعد ذلك، استمرت متابعات متعددة بما في ذلك تقييم النمو في عمر 18 شهرًا، والذي قال ماكفارلاند إنه “معقد جدًا لدرجة أنني اضطررت لأخذ دورة لفهمه”.
لقد حقق جميع الأطفال مراحل نموهم ذات الصلة. أما بالنسبة للمشاكل الصحية الأخرى، فقد عانى طفل واحد من بعض الارتعاشات القصيرة (تضمنت ثني الرقبة ورمش العين) في عمر سبعة أشهر، والتي اختفت دون علاج بعد ثلاثة أشهر. طفل آخر، كان يرضع رضاعة طبيعية، أصيب بارتفاع في دهون الدم (hyperlipidemia) والتي أثرت أيضًا على الأم أثناء الحمل، وتم علاجه بنجاح من خلال نظام غذائي منخفض الدهون. كما تم تشخيص هذا الطفل باضطراب في ضربات القلب (cardiac arrhythmia) يتم علاجه بنجاح بكمية متناقصة من الأدوية المضادة لاضطراب ضربات القلب. عانى طفل ثالث من التهاب في المسالك البولية استجاب بسرعة للعلاج بالمضادات الحيوية.
يقول المؤلفون إن الظروف الصحية للأطفال لا يُعتقد أنها مرتبطة بطفرات الحمض النووي للميتوكوندريا الأمومية، حيث أن المستويات المنخفضة التي تم اكتشافها في هؤلاء الأطفال لا يتوقع أن تسبب أعراض المرض. تظهر أعراض هذه الطفرات فقط عند مستويات تتجاوز 80%. أي تأثير لإجراء نقل النواة الأولية نفسه يتوقع أن يكون له مظاهر سريرية أكثر اتساقًا، أي أن يؤثر على الأطفال بنفس الطريقة. ومع ذلك، ستكون دراسات المتابعة ذات أهمية قصوى في الكشف عن أي أنماط في حالات الطفولة، وسيواصل الفريق تقديم التقييمات حتى سن الخامسة.
يقول ماكفارلاند: “نعتقد أن عملية المتابعة التي وضعناها شاملة، حيث تسمح لنا بالكشف عن ومراجعة حتى الحالات الصحية البسيطة لدى الأطفال المولودين بعد نقل النواة الأولية مثل التهاب المسالك البولية”.
تفاؤل حذر وأمل للمستقبل
أحد الأسباب التي تجعل هذا الإنجاز مؤثرًا للغاية، كما أشار ترنبل، هو تأثيره على المرضى في المستقبل. حتى الآن، كان من الصعب تقديم المشورة. يمكن للناس اتخاذ خيار فقط إذا كانوا على اطلاع، وقد امتنع بعض الناس عن الإجراء بسبب نقص المعلومات. ولكن الآن، مع هذه البيانات، يمكن تقديم التفاؤل للمرضى (بشكل حذر، كما يلاحظ الفريق). وتظهر صورة توفر معلومات كافية للأشخاص حتى يتمكنوا من اتخاذ قراراتهم بأنفسهم.
تقول هربرت إنه بالنسبة لها، ولأن نقل النواة الأولية يحدث “في الساعات الأولى من الصباح”، فإن الأمر مجزٍ للغاية لأن الليالي الطويلة قد أثمرت. وتضيف أنه في العلم، “فترات الفرح عابرة وقصيرة”، لأنك تنتقل بسرعة للتفكير في التحديات التالية.
يشير ماكفارلاند إلى أنه يرى الأطفال بانتظام في وحدات العناية المركزة ويقابل الأزواج الذين يأتون إلى العيادة. وقد كان رائعًا أن يتمكن من تقديم هذا الخيار لهم. ولكن رؤية هؤلاء الأطفال الآن – ومعرفة أنهم لن يصابوا بأمراض الميتوكوندريا – أمر مذهل حقًا.
يُعدّ الإنجاز الأخير الذي حققه فريق الباحثين في المملكة المتحدة، بولادة ثمانية أطفال أصحاء باستخدام تقنية نقل النواة الأولية، بمثابة فتح علمي وطبي هائل يبعث الأمل في قلوب آلاف الأسر حول العالم التي تعاني من أمراض الميتوكوندريا الوراثية. هذه التقنية المبتكرة، التي تتضمن استبدال الميتوكوندريا المعيبة في البويضة الأموية بميتوكوندريا سليمة من متبرعة، أثبتت فعاليتها في منع انتقال هذه الأمراض الخطيرة. على الرغم من بعض التحديات المتبقية، مثل مشكلة بقايا الميتوكوندريا الأموية، فإن النتائج الأولية تبشر بالخير وتشير إلى أن المستويات المكتشفة لا تزال ضمن الحدود الآمنة ولا تُتوقع أن تسبب أي أعراض مرضية.
تُظهر المتابعة الدقيقة والشاملة للأطفال المولودين بهذه التقنية، والتي تتضمن تقييمًا مستمرًا لنموهم وصحتهم، التزام الباحثين بالسلامة والدقة. هذا الإنجاز لا يمثل تقدمًا تقنيًا فحسب، بل يوفر أيضًا معلومات حيوية للأسر لاتخاذ قرارات مستنيرة بشأن الإنجاب. وبينما يستمر البحث لتجاوز التحديات المتبقية وتحقيق الوقاية الكاملة، فإن هذا النجاح يفتح آفاقًا جديدة للمستقبل، ويؤكد على قوة العلم في تحويل اليأس إلى أمل، ويسهم في بناء مستقبل صحي لأجيال قادمة خالية من عبء أمراض الميتوكوندريا.
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :